السودان بحاجة إلى الأمم المتحدة وليس للولايات المتحدة
السودان بحاجة إلى الأمم المتحدة، وليس للولايات المتحدة، لتجنّب حمّام دم أكبر في الوقت الحالي! وتُظهر التجربة التاريخية أنه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فإن واشنطن قامت بعمليات عسكرية في الخارج في محاولة لتشكيل دول أخرى وفقاً لاحتياجاتها.
في السنوات الأخيرة، قد تبدو أفريقيا مستقرّة ظاهرياً، لكن في الواقع إنّ هناك موجة من التيارات التي تُحرّكها.
لم يتحدّث أيّ من الطرفين المتحاربين أي الجيش الحكومي وقوات الدعم السريع عن أحدث أرقام الضحايا بحلول 20 نيسان/أبريل الماضي. إلّا أنه وفقاً للأرقام الصادرة عن منظمة الصحة العالمية في جنيف، فقد تسبّب الصراع في مقتل أكثر من 300 مدني وأكثر من 1000 إصابة حتى 19 نيسان/أبريل الماضي.
وسقط الضحايا في أنحاء الخرطوم وجنوب كردفان وشمال دارفور والولايات الشمالية. ولكن الصراع في العاصمة الخرطوم هو الأشد حدة. فبعد انطلاق الأحداث في 15 نيسان/أبريل الماضي، دعا الأمين العام للأمم المتحدة والدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن والاتحاد الأفريقي والجامعة العربية والاتحاد الأوروبي وأطراف أخرى إلى وقف إطلاق النار، لكنّ طرفي القتال أعربا عن إصرارهما على مواصلة القتال.
قال جون غودفري، السفير الأميركي الذي وصل حديثاً إلى السودان، إن "القتال خطير للغاية، وأنا الآن ألجأ إلى المكان نفسه مع موظفي السفارة، والناس في جميع أنحاء الخرطوم وفي أماكن أخرى يفعلون الشيء نفسه، ويدعون كبار قادة الجانبين إلى وقف النزاع".
في 17 نيسان/أبريل أكدت السفارة الصينية في السودان في بيان، "قمنا بجمع معلومات أساسية عن المواطنين الصينيين في السودان مؤخّراً، ونحتاج إلى إصدار أحكام وقرارات نهائية (بشأن الإخلاء) بناءً على تطوّرات الوضع". وتشير الإشارات المختلفة إلى أن الوضع المحلي خطير للغاية.
لماذا السودان، وهو بلد ذو تاريخ طويل وتراث ثقافي غني، يعيش مثل هذه الحرب الأهلية الشرسة في هذا الوقت؟
كثير من الناس لم يزوروا أفريقيا أبداً، ولكن لديهم صورة في أذهانهم مفادها أنها "مجرّد جحيم حرب ومرض". إلا أنه في الواقع، يوجد في أفريقيا العديد من الأماكن الجميلة، بما في ذلك الغابات الاستوائية المطيرة الأكثر بدائية، والموارد المعدنية، والذهب، والماس، وخام الحديد، وموارد العمالة الوفيرة.
وإذا أخذنا السودان كمثال، فهو بلد يمتلك التراث الثقافي لمصر القديمة والسودان، بما في ذلك معبد الشمس البنغال، والمقبرة الملكية، وأهرامات كيريباتي. لكنّ هذا البلد الذي يتمتع بتراث ثقافي غني وبموارده الطبيعية يعاني منذ فترة طويلة من الحروب. فعلى الرغم من حصول السودان على استقلاله من الحكم الاستعماري البريطاني في 1 كانون الثاني/يناير 1956، إلا أنه تأثّر بشدة بطريقة "فرّقْ تسُدْ" البريطانية.
لقد مرت 67 عاماً منذ ذلك الحين، ولم يصل إلى السلطة سوى أربعة رؤساء، وقد تمّ وصولهم جميعاً من خلال الانقلابات. فبعد كل انقلاب في السودان أسس جميع الرؤساء تقريباً حكماً استبدادياً يتميّز بالمركزية الفردية والحكم طويل الأمد، لكنهم فشلوا في تشكيل عملية ديمقراطية فعلية لنقل السلطة. وبمجرد نجاح الانقلاب العسكري فإنه غالباً ما ينطوي على السيطرة على القوة العسكرية للبلاد، ودمج رؤساء الدول والحكومات والقوة العسكرية معاً.
وفي عام 1993، أدرجت الولايات المتحدة السودان في قائمة الدول "الداعمة للإرهاب" وفرضت عليه عقوبات. فتخلّت الغالبية العظمى من المؤسسات المالية عن أعمالها في السودان، ما أدى إلى تباطؤ التنمية الصناعية. وفي عام 1997، أعلنت إدارة الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون عقوبات اقتصادية شاملة ضد السودان، بل وقدّمت المساعدة لمتمرّدي الجنوب في السودان.
وفي 1999، دخلت شركة نفط أميركية واستخرجت النفط السوداني. لكن هذا البلد الفقير الذي يبلغ عدد سكانه نحو 44 مليون نسمة ويقلّ دخل الفرد السنوي فيه عن 300 دولار "ناجح للغاية" في تحمّل العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة. ويُعرف السودان بـ "مملكة النفط الفقيرة" لأنه على الرغم من ثرائه بالنفط إلا أن قدرته الاستخراجية محدودة.
وعلى مرّ السنين، نضجت صناعة النفط في السودان تدريجياً بمساعدة الصين، وأصبح دولة مصدّرة للنفط. ومع رؤية الصين تحمل سفناً نفطية من السودان، كان بالإمكان القول إن "الغضب يعتصر قلب الولايات المتحدة".
في عام 2004، شكّل نفط السودان نحو 5% من إجمالي واردات الصين من النفط. في ذلك الوقت، كان الاقتصاد السوداني يتحسّن، حيث زاد دخل الفرد إلى نحو 600 دولار، ما جعله أحد أسرع البلدان النامية في أفريقيا وحظي بإشادة الأمم المتحدة.
ومع التدخّل العميق للولايات المتحدة في شؤون السودان، نمت حركة تمرّد سودانية بشكل سريع، وهي "جيش التحرير الوطني لجنوب السودان"، والتي أقيمت قاعدتها في تشاد المجاورة، باستثمارات من الولايات المتحدة لتدريب "المقاتلين الديمقراطيين". ومن عام 2001 إلى عام 2011، خصصت الولايات المتحدة 1.2 مليار دولار وأسلحة لا حصر لها للسودان. وفي عام 2007، أقنعت الصين الرئيس السابق عمر حسن البشير بقبول القرار رقم 1769 الصادر عن مجلس الأمن بشأن نشر قوات حفظ سلام مشتركة في السودان.
لكن الولايات المتحدة طالبت المجتمع الدولي بحظر مبيعات الأسلحة ضد القوات الحكومية في دارفور، وحتى بعد صدور قرار مجلس الأمن، ما زالت الولايات المتحدة تقدّم الأسلحة سراً للمتمردين، ما أدى إلى نشوب صراع أكبر.
في غضون ذلك، أصبحت مسألة دارفور "سلاحاً للغرب" لمحاصرة الصين بطريقة كاذبة، بعد اقتراح الصين السياسي بأن "دارفور هي دارفور سودانية"، وعلى جميع الدول احترام سيادة السودان. فبدأت الولايات المتحدة تؤدي دور "عرّاب حقوق الإنسان"، مستخدمة ذلك ذريعة لإخراج دارفور من ولاية الخرطوم، ولتنفيذ مؤامرة لطرد الصين من السودان والسيطرة على جميع جوانب إنتاج النفط وتداوله ونقله.
في عام 2011، وأثناء انفصال شمال وجنوب السودان، دعمت الولايات المتحدة جنوب السودان. وتسبّب التدخّل غير العادل في خسارة السودان لما يقرب من 70% من حقول النفط الواقعة في الجنوب، ما أدّى إلى أضرار لا رجعة فيها لأساسه الاقتصادي.
وخلال إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، زادت الولايات المتحدة من تدخّلها في شؤون السودان. وفي عامي 2020 و2021، قدّم الكونغرس الأميركي على التوالي مشاريع قوانين متعلقة بالسودان لتعزيز الإشراف على أجهزة الأمن والاستخبارات فيه.
وعلى الرغم من مرور 16 عاماً على قضية دارفور، إلا أن الولايات المتحدة لم تتغيّر. فالفوضى في السودان هذه المرة ليست عرضية، وإلى حد ما لا تنفصل عن ظل الولايات المتحدة. وقبل بضعة أشهر، سمح السودان للاتحاد الروسي وبشكل ملحوظ، بإنشاء قاعدة بحرية في البحر الأحمر. وتسبّبت رغبة قوة الدعم السريع السودانية في أن تعود القوات العسكرية الروسية إلى السودان، بقلق الولايات المتحدة.
في عام 2022، أصدرت الولايات المتحدة تحذيراً للسودان من أنه إذا نفّذ اتفاقه السابق مع روسيا لإنشاء قاعدة بحرية روسية في البحر الأحمر، فإنه سيواجه "عواقب". وفي 11 نيسان/أبريل الماضي، وقبيل اندلاع الحرب الأهلية في السودان، قال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكين: "تحدثت اليوم مع عبد الفتاح البرهان، الرئيس العام للجنة العسكرية الانتقالية السودانية، لتأكيد أن الولايات المتحدة تدعم السودان الديمقراطي وتشجّع على تشكيل سريع لحكومة انتقالية يقودها أفراد مدنيون".
إضافة إلى ذلك، وصل السفير الأميركي في السودان إلى الخرطوم في وقت متأخر من الليل قبل اندلاع الصراع. وكل هذا يبدو أنه مخطط ذكي للغاية ويبدو أنه لمس "الخط الأحمر" للولايات المتحدة.
يقول بعض المحللين إن التحوّل الاستراتيجي الجماعي الأخير في الشرق الأوسط وأفريقيا (بالنظر إلى الشرق) قد أثار غضب الغرب الذي تقوده الولايات المتحدة إلى حد ما، وإن السودان يُنظر إليه على أنه اختراق للولايات المتحدة لشن هجوم مضاد ضد الصين وروسيا.
وتدلّ كل المؤشرات على أن اليد السوداء المألوفة للولايات المتحدة لم تغادر ساحة الفوضى المتجددة في السودان.
في السنوات الأخيرة، أرست الصين أساساً قوياً في أفريقيا مع بناء السلام باعتباره خط عملها الرئيسي. وبدأت الولايات المتحدة والغرب في القفز بشعار "أفريقيا المزدهرة" و"البوابة العالمية" للاتحاد الأوروبي، والتي تشير على وجه التحديد إلى أفريقيا.
وابتكرت الولايات المتحدة والغرب دعاية لإثارة الرأي عام مفادها أن الصين وضعت أفريقيا في "فخ الديون". وفي الآونة الأخيرة، أعلنت الصين أنها ستخفّف من ديون البلدان الأفريقية، وفي العام الماضي، ألغت ما يصل إلى 23 قرضاً من دون فوائد لـ 17 دولة.
ورغم ذلك، ألقى بعض كبار المسؤولين الأميركيين ومسؤولي البنك الدولي باللوم على الصين في مشاكل ديون أفريقيا، قائلين إن "الصين تشكّل عقبة أمام تخفيف ديون البلدان الأفريقية"، ويطلبون من الصين بذل المزيد في إعادة هيكلة ديون البلدان الأفريقية.
وفي مؤتمر صحافي عقد يوم 4 آذار/مارس في الجلسة الأولى للمجلس الوطني الرابع عشر لنواب الشعب الصيني، ردّ وانغ تشاو المتحدث باسم المجلس على اتهامات بعض الدول التي تزعم أن الصين تخلق مصيدة ديون في أفريقيا. ولكن وفقاً لإحصاءات البنك الدولي والمنظمات الدولية الأخرى، فإن الصين ليست أكبر دائن للديون الأفريقية، إذ إنّ المؤسسات المالية المتعددة الأطراف والدائنين التجاريين يمتلكون ثلاثة أرباع إجمالي الدين الخارجي لأفريقيا، وهي أكبر الديون الحقيقية.
ولطالما التزمت الصين بمساعدة أفريقيا في تخفيف ضغط ديونها، وتشارك بنشاط في مبادرة مجموعة العشرين لتخفيف عبء الديون، كونها الدولة التي لديها أكبر قدر من تخفيف عبء الديون بين الدول الأعضاء.
كما أكدت وزارة الشؤون الخارجية في 10 نيسان/أبريل، أن الصين تولي أهمية كبيرة لأفريقيا وتساعدها بنشاط في التعامل مع مشاكل ديونها، وأن مساهمة الصين هي الأكبر من بين مبادرات تخفيف ديون مجموعة العشرين.
ووفقاً لآخر نتائج الأبحاث التي توصّل إليها معهد الصين وأفريقيا بجامعة جونز هوبكنز، فإن الصين شاركت بنشاط في مبادرة مجموعة العشرين للإعفاء من الديون، حيث ساهمت بنسبة تصل إلى 63% من مبلغ الإعفاء من الديون.
ويشير التقرير أيضاً إلى أن الصين تواصلت بشكل جيد مع المشاركين الآخرين، ونفّذت بشكل فعّال إجراءات تخفيف الديون، وأدّت واجباتها بشكل جيد.
لا أحد سوى من يرتديه، يعرف أين يقرص الحذاء.
قبل أيام قليلة، قال أوسينباجو، نائب رئيس نيجيريا، الدولة الأفريقية، إن قلق الحكومات الغربية بشأن ما يسمى بـ "فخ الديون الصينية" هو ردّ فعل مبالغ فيه. فقد ساعدت الصين أفريقيا على خفض ديونها وكذلك ساعدت الدول المتخلّفة، لكن بعض السياسيين الأميركيين والغربيين يحاولون التدخّل في تعاون الصين مع الدول النامية من خلال نسج جميع أنواع فخاخ الخطاب، وقد شوهدت حيلهم من قبل الدول النامية والمجتمع الدولي.
وتعتبر الولايات المتحدة هي أيضاً أكبر مساهم في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ورأس المال المالي من الولايات المتحدة وأوروبا هو أكبر دائن تجاري للدول الأفريقية، وهو ملزم بواجب المشاركة في حل مشكلة الديون الأفريقية.
إذاً أين المخرج للفوضى في السودان؟
في الوقت الحالي، يشعر الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في السودان بالقلق إزاء الوضع هناك، ودعا الجانبين إلى وقف النزاع. إلا أنه من الواضح أن مجرد النداءات لا يمكن أن يحل المشاكل الجوهرية، وأن إرسال قوات حفظ السلام هي الطريقة الأكثر فعالية للتدخل.
وبالعودة إلى عام 2007، استطاعت الصين إقناع الرئيس عمر حسن البشير بقبول قرار مجلس الأمن رقم 1769، وهو قوة حفظ سلام مشتركة قوامها 26 ألف جندي حفظ سلام مختلط من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي في منطقة دارفور في السودان.
أصبح استئناف محادثات السلام بين الحكومة السودانية والفصائل المناهضة للحكومة نقطة انطلاق جديدة للمجتمع الدولي لتعزيز عملية السلام في دارفور وإيجاد فرصة جديدة للحوار بين الحكومة السودانية والفصائل المناهضة للحكومة، وهذا هو "الحل الصيني" الناجح عملياً.
وباختصار، السودان بحاجة إلى الأمم المتحدة، وليس للولايات المتحدة، لتجنّب حمّام دم أكبر في الوقت الحالي! وتُظهر التجربة التاريخية أنه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فإن الولايات المتحدة قامت باستمرار بعمليات عسكرية في الخارج في محاولة لتشكيل دول أخرى وفقاً لاحتياجاتها.
وترى المزيد والمزيد من الدول في المجتمع الدولي، أن الولايات المتحدة "تُقاتل" بشأن ما يسمّى بحقوق الإنسان بينما تفعل أشياء لتدميرها. وتحاول الولايات المتحدة الآن استخدام السودان القاحل والمنهار تقريباً لمحاربة خصمها الرئيسي اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً.
إلّا أنّ مثل هذه المؤامرة لن تنجح أبداً.