الريادة والقيم الأميركية.. ضحايا الاستحقاقات الانتخابية

الانتخابات النصفية الأميركية، وإن لم تكن مطابقة لتوقعات الرئيس السابق دونالد ترامب، شكلت الدليل القاطع على أنّ الولايات المتحدة باتت ملزمة باستبدال روايتها عن الريادة والقيادة والقيم بأخرى أكثر تواضعاً.

  • الولايات المتحدة لم تتمكَّن من الحفاظ على تفوّق أطروحتها حول النظام القطبي والعلاقات الدولية لفترة طويلة
    الولايات المتحدة لم تتمكَّن من الحفاظ على تفوّق أطروحتها حول النظام القطبي والعلاقات الدولية لفترة طويلة

لم يعد تقييم الاستحقاقات الانتخابية الأميركية في هذه المرحلة مفيداً وفق المنطق النمطي القائم على أساس تقديرات الربح والخسارة بين الأحزاب المشاركة، إذ إنَّ التنافس الانتخابي بين الأحزاب الأميركية لا يعبّر عن الصراع بين اليمين واليسار الذي يطغى عادة في الدول الغربية الأخرى. 

الحزبان الجمهوري والديمقراطي، وإن ظهرا بطريقة توحي بانقسام سياسي عمودي حول عدد من القضايا التي تمس المجتمع الأميركي، والتي تعبر عن رؤية مختلفة قد يتمكَّن البعض من تظهيرها وفق منطق اليمين واليسار، فإنهما لا يعبران إلا عن حزبين يمينين لا يختلفان في رؤيتهما المؤيدة للمنطق الدولتي السائد في الولايات المتحدة الأميركية. 

من هذا المنطلق، تتطابق المفاهيم الحاكمة للفلسفة المحركة للحزبين في خطابهما الموجه إلى الرأي العام الأميركي، إذ يتفقان على منظومة من المثل العليا التي تفترض التسويق لها داخل المجتمع الأميركي، فالديمقراطية الليبرالية، بما تعنيه من شعارات تتعلق برفض انتهاك حقوق الإنسان والحريات العامة والتسويق للعدالة والحرية والكرامة، تكاد تكون واحدة في خطابهما الحزبي، بما يجعل إمكانية التفريق بين خطابيهما أمراً مستحيلاً. وعلى هذا الأساس، يمكن ملاحظة مدى تطابق هذه المفاهيم في خطابات الرؤساء السنوية حول حالة الاتحاد، رغم اختلاف انتماءاتهم الحزبية. 

وللتدليل على هذا التطابق، يمكن الإشارة إلى الإستراتيجية القومية الأميركية العابرة للانقسام الحزبي الداخلي، إذ تتكفل في صياغتها وصيانتها البيروقراطية الحاكمة، أي الدولة العميقة. 

ومن ناحية أنها دائماً ما تعبر عن قراءة واحدة لهذه المعايير، يمكن تأكيد رسوخ هذه المعايير كأفكار عابرة للانقسام الحزبي وفق فرضية إدراك الجميع أهميتها بالنسبة إلى مبدأ المسؤولية الاجتماعية التي لا يمكن التشكيك في صوابها تحت أيّ ذريعة أو سبب.

 وإذا تعمَّقنا في روح هذه الإستراتيجية، فإنها تعبر عن قناعة تامة تفترض أنها تشكل الخيار الفاعل لضمان وحدة المجتمع الأميركي وتفوقه. وإذا كان الحديث عن إستراتيجية قومية تستهدف الحفاظ على وحدة المجتمع الأميركي مقبولاً لناحية دور السلطة في الحفاظ على تماسكها المجتمعي الضروري لبقاء الدولة وعدم تحللها، فإن حرص هذه الإستراتيجية على ضمان تفوق المجتمع الأميركي يفترض قناعة أميركية بأن التقدم البشري لا يمكن أن يتحقق إلا إذا اتبع النموذج الأميركي، فالولايات المتحدة الأميركية، ومن خلال التسويق لنظامها السياسي والدستوري، سوَّقت لفكرة أن الارتقاء العالمي لن يكون مقبولاً إلا من خلال اتباع النظام السياسي والاقتصادي الأميركي.

وفي هذا الإطار، تبرز فلسفة صامويل هنتنغتون الذي اعتبر، من خلال أطروحته المعروفة بصراع الحضارات، أن الصراع في مرحلة ما بعد الحرب الباردة لن يكون صراعاً أيديولوجياً، كالصراع السوفياتي الغربي، إنما سيكون بسبب الاختلاف الثقافي والديني بين الحضارات الكبرى.

وفي استكماله لأطروحته، رأى هنتنغتون أن مفهوم الحضارة العالمية هو أيديولوجيا الغرب ضد المجتمعات الغربية. ووفق المنطق الغربي، يجب التسليم بأن المفاهيم الغربية المرتبطة بالحرية والديمقراطية الليبرالية وحقوق الإنسان هي المعبر الوحيد الصالح لتحقيق السعادة والسلام.

لم تتمكَّن الولايات المتحدة من الحفاظ على تفوّق أطروحتها حول النظام القطبي والعلاقات الدولية لفترة طويلة، إذ أن انهيار الاتحاد السوفياتي لم يساعد في إرساء حقبة طويلة من التفوق الأحادي الأميركي، ذلك أنَّ العالم بدأ يتجه، باستثناء أوروبا الغربية، نحو تفعيل خيار الإقليمية الذي نسف في أماكن كثيرة أطروحة هنتنغتون. 

وإذا كان العالم قد أنكر واقعية أطروحة هنتنغتون، إذ ظهرت بعض المنظمات أو التحالفات العابرة للتمايز الثقافي أو الديني، فإنَّ صراعاً ثقافياً أهلياً ظهر بين النخب والانتماءات العرقية والدينية الأميركية، فالمرحلة التي شهدت وصول باراك أوباما إلى سدة رئاسة الولايات المتحدة أظهرت سلوكاً من التزمّت بين فئات المجتمع الأميركي الَّذي استطاع دونالد ترامب تجييره في حملتيه الانتخابية الرئاسية الأولى والثانية. 

وإذا كانت الحملة الأولى قد أدَّت إلى ظهور هذا التزمّت وفق ضوابط وحدود سببها وصوله إلى البيت الأبيض، فإن الحملة الانتخابية الثانية، التي لم يستطع من خلالها الحفاظ على موقعه رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، أظهرت ذلك السلوك بطريقة واضحة تعبر عن عمق الشرخ المتحكّم في أطياف المجتمع الأميركي.

وإذا كانت الولايات المتحدة قد استطاعت أن تتخطى الأخطار المتأتية من المنافسين الدوليين عبر منظومة من التحالفات الدولية، إضافة إلى عدد من أدوات الحرب الباردة التي أثبتت قدرتها على البقاء والاستمرار رغم انتفاء الأسباب التي دفعت إلى ولادتها، كحلف شمال الأطلسي أو علاقاتها المميزة مع الدول الأوروبية أو الدول الغنية بمصادر الطاقة، فإنَّ الأسباب الداخلية المهددة لاستقرارها المؤسساتي ما زالت فاعلة من دون أي قدرة على معالجتها.

وإذا عدنا إلى مقولة المؤرخ الأميركي ويل ديوارت بأنَّ الحضارات العظيمة لا تُهزم إلا عندما تدمر نفسها من الداخل، فإنَّ السنوات الأخيرة، مع ما شهدته من استحواذ للنخب الحاكمة على السلطة والثروة وفقدان المساواة، إضافة إلى الاضطرابات الداخلية المتكررة التي ساهمت بشكل عميق في هدم التضامن المجتمعي الذي ينفي مقولة أنَّ المجتمع الأميركي هو بوتقة منصهرة تفترض البحث جدياً في إمكانية توجه الولايات المتحدة الأميركية نحو حرب أهلية ثقافية على أقل تقدير.

في هذا الإطار، لم تكن الانتخابات النصفية الأخيرة بعيدة من هذه الفرضية، إذ إنَّ التنافس بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري لم يكن تنافساً انتخابياً نمطياً يرتكز على تعارض الرؤى حول بعض الملفات ذات الشأن الداخلي أو الخارجي؛ فالحزب الجمهوري الذي خاض الانتخابات الأخيرة تحت قيادة الرئيس السابق دونالد ترامب أذعن لرؤيته، إذ إن معظم مرشحي هذا الحزب كانوا من أنصار نظرية ترامب الذين قد لا يتوانون، في حال نجاحهم، عن الطعن في شرعية المؤسسات الدستورية الأميركية المختصة عند أي استحقاق مقبل.

بالطبع، لا تكمن هذه الإشكالية في سلوك ترامب أو أتباعه، إذ يمكن تحليله وفق منطق أنَّ الخسارة قد تدفع صاحبها نحو رفض الأطر الدستورية المشرعة لهذه النتيجة، إنما تكمن في نوعية الخطاب المعتمد أولاً، والفئة المستهدفة منه ثانياً.

وعلى مستوى نوعية الخطاب المعتمد، لم يتردد الرئيس الأميركي السابق وأتباعه في اعتماد سياقات تصنف المجتمع الأميركي على أسس طبقية، مع ملاحظة بروز محاولة لتخصيص السلطة نخبة معينة على حساب باقي فئات المجتمع، فالخطاب الذي ساد في هذه المرحلة لم يكن متوافقاً ومفاهيم الريادة والقيم الأميركية، إنما عبّر عن سعي فئة محددة للإمساك بزمام السلطة من أجل تحقيق غايات محددة.

بالنسبة إلى الفئة المستهدفة، فإن المعركة الانتخابية، من ناحية الحزب الجمهوري على الأقل، أظهرت تمييزاً واضحاً لجهة الفئة المستهدفة، إذ إنَّ العنصرية البيضاء حضرت بقوة تحت عناوين تهدف إلى العودة للجذور وما تعتبره هذه العنصرية عودة إلى الأصول. ويكفي في هذا المجال أن نعود إلى ما قاله الرئيس الأميركي جون بايدن تعليقاً على إخفاق الحزب الجمهوري في تحقيق انتصار ساحق، إذ اعتبر أنَّ ما حدث انتصار للديمقراطية.

لن تتمكن الولايات المتحدة الأميركية من تخطي إشكالية التفاعلات السلبية الداخلية التي أرخت بثقلها على المؤسسات الدستورية الأميركية منذ اقتحام مناصري ترامب الكونغرس الأميركي في القريب العاجل، فالانتخابات النصفية، وإن لم تكن مطابقة لتوقعات دونالد ترامب، شكلت الدليل القاطع على أن الولايات المتحدة باتت ملزمة باستبدال روايتها عن الريادة والقيادة والقيم بأخرى أكثر تواضعاً، من قبيل البحث عن الأمن المجتمعي والسلام والتماسك الداخلي. 

الانتخابات النصفية الأميركية، في 8 تشرين الثاني/نوفمبر 2022، تأتي في وقت حساس وبالغ الأهمية، وترسم شكل الحكم في السنتين المتبقيتين من إدارة الرئيس جو بايدن.