الذكرى السنوية الثالثة لاستشهاد سليماني والمهندس.. 3 حقائق مهمة
واشنطن تتابع بدقة وقلق مظاهر إحياء الذكرى السنوية لاستشهاد القادة في العراق وإيران ودول أخرى.
يعكس مجمل مظاهر إحياء الذكرى السنوية الثالثة لاستشهاد نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقي أبو مهدي المهندس وقائد "قوة القدس" الإيراني قاسم سليماني 3 حقائق مهمة للغاية.
الحقيقة الأولى أنَّ هذين القائدين أدّيا أدواراً حاسمة ومحورية في الحرب ضد الإرهاب، وضد القوى الخارجية التي كانت، وما زالت، تسعى لفرض مشاريعها وأجنداتها التوسعية وتمرير مؤامراتها عبر مختلف السبل والأدوات والوسائل، ولم يقتصر نطاق عملهما ونشاطهما على العراق، بل امتد إلى مكان وجود الإرهاب التكفيري ومكامن مخاطره وتهديداته.
الحقيقة الثانية أنهما أسسا لمنهج متطور وعملي وفاعل للمقاومة، كان من أبرز ثماره القضاء على تنظيم "داعش" الإرهابي وإلحاق الهزيمة به في العراق خلال 3 أعوام ونصف عام، فيما كان الساسة والقادة العسكريون والخبراء الأميركيون والغربيون يقولون إن القضاء عليه يتطلب 30 عاماً.
هذا المنهج المتطور والعملي والفاعل تكامل مع منهج حزب الله اللبناني المقاوم، ومع منهج القوى والحركات الفلسطينية المتصدية للكيان الصهيوني، ومع منهج حركة "أنصار الله" اليمنية وغيرها، ليشكل جبهة واسعة ومؤثرة ومقلقة للأعداء.
الحقيقة الثالثة أنَّ قيام الولايات المتحدة باستهدافهما وتصفيتهما، وبصورة علنية فاضحة، يؤكد بما لا يقبل الشك أن هناك أوجه ترابط وتخادم والتقاء بين مصالح واشنطن وحلفائها من جهة، والجماعات والتنظيمات الإرهابية من جهة أخرى، سواء تمثلت تلك الجماعات والتنظيمات بتنظيم "القاعدة" أو "داعش" أو سواهما من العناوين والمسميات العديدة.
وقد بدت مظاهر إحياء الذكرى هذا العام، من حيث الكمّ والنوع، أوسع وأشمل مما كانت عليه في العام الماضي والعام الذي سبقه، وكانت الشعارات والمطالب ببعديهما السياسي والشعبي واضحة إلى حد كبير، وتمحورت حول ضرورة تشخيص الفاعلين والمتورطين وإنزال القصاص العادل بهم، وكذلك إكمال استحقاقات إنهاء الوجود العسكري - وحتى غير العسكري - الأميركي من العراق، بما يفضي إلى تكريس مبدأ السيادة الوطنية وإخراج البلد من دائرة الارتهان لسياسات واشنطن ومصالحها وإملاءاتها.
ومثلما كانت رسائل "جمعة طرد المحتل" في العامين المنصرمين واضحة وقوية وبليغة ومعبرة، فإن رسائل الحشود الجماهيرية في الذكرى السنوية الثالثة لغياب سليماني والمهندس كانت واضحة وقوية وبليغة ومعبرة أيضاً، إن لم تكن أوضح وأقوى وأبلغ.
ولعل من بين تلك الرسائل إثبات خطأ حسابات الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها وأصدقائها وأدواتها في المنطقة والعالم، لأنها تصورت أنها، باستهدافها هذين الرجلين، تكون قد نجحت في ضرب محور المقاومة في الصميم، وبالتالي أنهته، لكنها لم تدرك أن ما صنعه القائدان الشهيدان ليس ممكناً أن ينتهي ويزول، وإن غابا عن المشهد واختفيا من الميدان، لأن العبرة تكمن في بقاء المنهج والمبدأ وديمومتهما، وهذه هي أهم رسالة في مجمل فعاليات إحياء ذكرى الشهيدين ومظاهرها، إذ امتزجت وتداخلت عناوين الشهادة والسيادة مع بعضها البعض.
وكما مثّل إنهاء الوجود الأجنبي الهدف المحوري للقادة الشهداء، فإنه سيبقى يمثل الأولوية، مهما حاولت واشنطن التهرب والمراوغة والخداع والتضليل، واستعادة السيادة الوطنية الكاملة هي مطلب عموم العراقيين، وبالتالي فإن دماء الشهيدين المهندس وسليماني وكل الشهداء ستظل نبراساً ومناراً يعبد الطريق نحو تحقيق الأهداف الكبرى وترسيخ قيم العزة والكرامة والإباء والصمود، وإفشال كل ما تخطط له وتريده وتسعى له واشنطن و"تل أبيب" وعواصم أخرى بعيدة وقريبة، ومثلما قال رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض في وقت سابق: "إنَّ الشعب العراقي استعاد وعيه ليدرك حجم المؤامرة بعد اغتيال الشهيدين قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس".
وفي التغريدة التي أطلقها رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، استذكاراً للشهيدين أبو مهدي المهندس وقاسم سليماني، قال: "من الواجب استذكار قادة النصر وبطولاتهم في التصدي لأعتى جماعة إرهابية متطرّفة عرفها تاريخنا المعاصر، وإن استهدافهم كان عملاً مداناً في كل الأعراف والقوانين الدولية. ولهذا، تعمل حكومتنا على تثبيت السيادة والعمل من أجل عراق مستقل في سياساته وقادر على حماية أبنائه".
وهنا، أكد السوداني عدة مسائل، أولها إدامة زخم إحياء ذكرى القادة الشهداء وربطها بالمواجهة مع تنظيم "داعش" الإرهابي، وثانيها استمرار الفعل والحراك السياسي لإعطاء بعد دولي عالمي لجريمة اغتيالهما، باعتبارها مثّلت عملاً مخالفاً للأعراف والقوانين والمواثيق الدولية، وثالثها مواصلة الجهود والمساعي الحثيثة لاستعادة السيادة الوطنية الكاملة، وإغلاق ملف الوجود الأجنبي في أرض البلاد.
ولعل هناك نقطة جوهرية تتمثل بأنَّ الولايات المتحدة الأميركية التي تدّعي أنها تحارب الإرهاب الداعشي التكفيري، أقدمت على استهداف اثنين من أبرز القادة الذين تصدّوا لتنظيم "داعش"، ليس في العراق فحسب، إنما في ميادين ومواقع ودول أخرى أيضاً، وكان لهما دور ريادي كبير في إلحاق الهزيمة به.
هذا التناقض الفاضح بين أقوال أميركا وادعاءاتها وشعاراتها من جانب، وأفعالها من جانب آخر، يكشف مرة أخرى بما لا يقبل الشكّ ولا يحتمل اللبس والغموض سياساتها الانتهازية المنافقة وبراغماتيتها الضيّقة، ولا يعد ذلك أمراً جديداً أو مفاجئاً لمن يعرف حقيقة السياسات والمواقف الأميركية على مرّ التاريخ ويفهمها ويدركها، ولا سيما منذ تحولها إلى قوة دولية كبرى بعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945) على أنقاض بريطانيا العظمى وفرنسا.
كذلك، إن الولايات المتحدة الأميركية انتهكت كلّ الأعراف والقوانين والمواثيق الدولية، من خلال استهدافها سليماني والمهندس على أرض العراق، فهي لم تحترم السيادة الوطنية العراقية، ولم تأخذ بعين الاعتبار أنَّ أحد الأشخاص الذين استهدفتهم، وهو الشهيد قاسم سليماني، كان ضيفاً رسمياً، وجاء بدعوة من الحكومة العراقية، وأن الشهيد أبو مهدي المهندس كان مسؤولاً رفيع المستوى في مؤسسة أمنية حكومية تعمل ضمن سياقات الدولة العراقية، وتحت إمرة القائد العام للقوات المسلّحة وإشرافه.
ومثلما كانت صدمة فقدان قائد ميداني كبير في الحشد الشعبي كأبو مهدي المهندس ثقيلة وشديدة الوطأة على العراقيين، فإنَّ فقدان القائد قاسم سليماني شكّل صدمة مماثلة للإيرانيين، وإن اختلطت وامتزجت مشاعر فقدانهما بين العراقيين والإيرانيين.
لقد كان سليماني حاضراً بقوة في كل الساحات والميادين. ونظراً إلى المكانة المهمة التي كان يشغلها والأدوار المحورية التي اضطلع بها في الدفاع عن الكيان الإسلامي، ليس في إيران فحسب، بل في مختلف الدول الإسلامية أيضاً، فقد تعرَّض لصنوف المؤامرات والحروب. وقد جعلته الشخصية الفذة والنادرة التي كان يتمتع بها من حيث الشجاعة والإقدام والترابية والبساطة والتواضع محط احترام وتقدير واعتزاز الجميع من دون استثناء.
لذا، كان من الطبيعي جداً أن لا تقف الجمهورية الإسلامية الإيرانية مكتوفة الأيدي وهي تفقد أحد أهم وأبرز رموزها وقياداتها العسكرية المهمة على أيدي الأميركيين، ولم تتأخر القيادة الإيرانية في أن تطلق رسائلها التي تؤكد أن الرد على اغتيال سليماني سيكون قاصماً، وسيجعل أميركا تندم كثيراً على فعلتها تلك، حين وجهت ضربة موجعة إلى الوجود الأميركي في قاعدة عين الأسد غرب العراق بعد 5 أيام على اغتيال سليماني والمهندس، من دون أن تهمل التحرك في المسارات القانونية الدولية والتواصل مع العراق لكشف كل خيوط الجريمة وملابساتها والأطراف المتورطة فيها.
وفي هذا السياق، أعلن مساعد رئيس السلطة القضائية للشؤون الدولية وأمين لجنة حقوق الإنسان في إيران، كاظم غريب آبادي، مستجدات الملاحقة القضائية في ملف اغتيال الشهيد سليماني، وأكد أن بين المتهمين 94 أميركياً، في مقدمتهم الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب ووزير خارجيته مايك بومبيو وقائد القيادة المركزية الأميركية الجنرال كينيث ماكنزي.
وتناول المسؤول القضائي الإيراني جوانب وأبعاداً مختلفة في هذا الملف، وتحدث عن التعاون والتنسيق بين بغداد وطهران، وطبيعة الخطوات المنجزة والمنتظر إنجازها في المستقبل.
وهناك جملة حقائق ومعطيات تؤكّد أنّ قضية اغتيال سليماني والمهندس باتت قضية عالمية، وخصوصاً أن الرأي العام في دول إسلامية عديدة أخذ يتفاعل على نطاق واسع. فضلاً عن ذلك، حتى في بعض الدول الغربية، راحت قضية الاغتيال تشغل حيزاً لا بأس به من الاهتمام.
صحيفة "ذي صن" (The sun) البريطانية الواسعة الانتشار سلطت الضوء عليها في تقرير مفصل، قائلةً: "إن اغتيال الجنرال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس ورفاقهما كان انتهاكاً واضحاً للقانون الدولي، هدفه تأخير سقوط الهيمنة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط... وعلى الرغم من شعار الولايات المتحدة بشأن مكافحة الإرهاب، فإنّ حكومتها، سواء كانت جمهورية أو ديمقراطية، كانت دائماً ما تقوم بدعم الإرهاب في سياستها الخارجية عن طريق خلق حالة من انعدام الأمن وإراقة الدماء كوسيلة لتعزيز المصالح الأميركية والوجود العسكري في المنطقة".
وأضافت: "عملية القضاء على داعش باعتباره مظهراً خارجياً للإرهاب من قبل الجنرال سليماني ورفاقه أبطل ما نظّر له دهاقنة السياسة في الولايات المتحدة تحت مسمى الغابة الأميركية، وجعل هذه الخطة بلا معنى. لذلك، كان اغتيال الجنرال قاسم سليماني ورفاقه في الحقيقة قتلاً للسلام وتعزيزاً للإرهاب بهدف استعادة المصالح الأميركية في المنطقة".
وهناك أيضاً ساسة وأكاديميون وأصحاب رأي ومراكز أبحاث غربية أخذوا يتحدثون بوضوح وصراحة أكثر، ولا سيما أنَّ الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب ومسؤولين آخرين في عهد إدارته اعترفوا بأنهم خططوا لعملية اغتيال القائدين العراقي والإيراني في بغداد ونفذوها.
ومن الطبيعي أنَّ ذلك وغيره لا يدع مجالاً للشكّ في أن واشنطن تتحمل مسؤولية ما حصل، وأن من غير الصحيح أن تمرّ جريمة الاغتيال من دون رد حازم وحاسم وقوي. ولعل واشنطن تدرك ذلك جيداً، وخصوصاً أنها تتابع بدقة وقلق مظاهر إحياء الذكرى السنوية لاستشهاد القادة في العراق وإيران ودول أخرى، فهذه المظاهر تحمل من الرسائل العميقة والبليغة والمعبرة الشيء الكثير الكثير.