الخاصرة الكردية الهشة واستحقاقات أمن جيران العراق
يعود وجود الجماعات الإيرانية المسلحة المعارضة لنظام الحكم الإسلامي في إيران في الأراضي العراقية إلى الأعوام الأولى لانتصار الثورة الإسلامية.
رسائل واضحة وصريحة جداً أطلقتها الجمهورية الإسلامية الإيرانية بخصوص التهديد الذي يشكله وجود فصائل مسلحة معارضة لها في الأراضي العراقية، وتحديداً في إقليم كردستان في شمال البلاد.
الرسالة الأولى جاءت على لسان وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان على هامش لقائه وفداً أمنياً عراقياً زار طهران في الآونة الأخيرة برئاسة مستشار الأمن الوطني قاسم الأعرجي، إذ قال الوزير إنّ بلاده "تنتظر من بغداد ألّا يكون تراب منطقة كردستان مكاناً للعمليات الإرهابية والتهديدات لإيران، ويجب أن تتحمل كل من بغداد وأربيل المسؤولية الكاملة عن التصدي للجماعات الإرهابية والانفصالية في منطقة كردستان العراق"، مؤكداً "أنّ أمن العراق من أمن إيران".
الرسالة الثانية جاءت على لسان رئيس أركان القوات المسلحة الإيرانية اللواء محمد باقري، بقوله: "لا يمكننا أن نتحمل أبداً وجود 3 آلاف عنصر عسكري، ولديهم مركز لصنع القنابل، خلف جدارنا الحدودي، وسنتصدى لهم بكل السبل"، في إشارة إلى الفصائل والجماعات الإيرانية المعارضة التي تتخذ من الأراضي العراقية في الشمال موطئ قدم لها منذ أعوام طويلة.
وأضاف اللواء باقري قائلاً: "الجيش الإيراني يراقب القواعد الأميركية في منطقة كردستان العراق، ويعرف مكان القاعدة الأمیركية في كردستان العراق وعدد قواتها، فإذا اتخذ الأميركيون أي إجراء ضد طائراتنا المسيّرة، فسنقوم بالرد بالتأكيد".
والرسالة الأخرى تمثلت بالخطاب الذي وجهته البعثة الإيرانية الدائمة في الأمم المتحدة إلى مجلس الأمن الدولي، والتي جاء فيها "أن إيران من كبار ضحايا الإرهاب طوال أكثر من 4 عقود، وأن الجماعات الانفصالية الإرهابية، مثل جماعة الحزب الديمقراطي الكردستاني وجماعات بيجاك وكوملة وباك، موجودة في إقليم شمال العراق، وتتخذ من أرض العراق منطلقاً للهجمات الإرهابية والمسلحة ضد المواطنين والبنى التحتية الإيرانية... هذه الجماعات المسلحة التي تصنفها القوانين الإيرانية جماعات إرهابية لديها عدد من مخيمات التدريب على الإرهاب في الأراضي العراقية وفي إقليم شمال العراق من أجل التدريب والتحريض والتخطيط والدعم وتنفيذ الهجمات الإرهابية والعمليات التخريبية في داخل الأراضي الإيرانية".
وأضافت: "هذه الجماعات قامت منذ عام 2016 إلى الآن فقط بشن 49 هجوماً إرهابياً في داخل الأراضي الإيرانية وقرب الحدود، أسفرت عن استشهاد 24 شهيداً و32 جريحاً، إذ تفيد المعلومات الموثقة بأنَّ التخطيط والإعداد والتنفيذ لهذه الهجمات جاء من داخل إقليم شمال العراق".
العراق، بنظامه السياسي الحالي، يؤكد أن دستوره يمنع استخدام أراضي البلاد للاعتداء على الجيران أو على أي طرف خارجي بما يهدد أمنهم القومي. فضلاً عن ذلك، فإنَّ مختلف الساسة والمسؤولين الرسميين العراقيين غالباً ما يشددون على رفضهم القاطع أن تكون أراضي بلادهم مقراً أو منطلقاً للجماعات المسلحة، أياً كانت أهدافها ودوافعها ومبرراتها.
ولعل مستشار الأمن الوطني قاسم الأعرجي تحدث بهذا المعنى من طهران بالقول: "الدستور العراقي لا يسمح بنشاط العناصر والتيارات التي تهدد أمن جواره، والحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم ستواجهان أي تحرك يستهدف أمن كلٍّ من إيران والعراق، وأي إجراء يمس أمن إيران سيجابَه بالرد من الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم، لأنّ العراق يعدّ أمن إيران من أمنه".
هذه الرسائل وتأكيدات المواقف والثوابت ارتبطت بالحملات العسكرية الأخيرة للجيش وحرس الثورة الإيراني، التي استهدفت مواقع الجماعات الإيرانية المسلحة في الأراضي العراقية، بعد تنفيذها عمليات إرهابية في مناطق إيرانية قريبة إلى الحدود بين البلدين، ناهيك باحتمال تورطها بالتظاهرات وأعمال العنف التي شهدتها العاصمة طهران ومدن أخرى منذ بضعة أسابيع على خلفية وفاة الشابة مهسا أميني في ظروف قيل إنها غامضة، رغم أنَّ الجهات الأمنية والصحية والقضائية الإيرانية أوضحت كلّ التفاصيل التي أكّدت وفاة الفتاة المذكورة جراء أمراض كانت تعانيها منذ سنّ الطفولة.
لم تكن الحملات العسكرية الإيرانية الأخيرة ضد الجماعات المسلحة المتمركزة في الأراضي العراقية هي الأولى في نوعها. بين الفينة والأخرى، كانت قوات الجيش أو حرس الثورة تلاحق تلك الجماعات حيث تتمركز وتتحرك وتنشط.
في حقيقة الأمر، يعود وجود الجماعات الإيرانية المسلحة المعارضة لنظام الحكم الإسلامي في إيران في الأراضي العراقية إلى الأعوام الأولى لانتصار الثورة الإسلامية في إيران ربيع عام 1979، فبعد اندلاع الحرب بين الأخيرة والعراق، عمد نظام حزب البعث حينذاك إلى احتضان الآلاف من قيادات وعناصر منظمة ما يسمى "مجاهدي خلق" الإيرانية المعارضة، ووفّر لها كل الإمكانيات العسكرية والمالية واللوجستية، ليستخدمها أداة في حربه ضد إيران ولقمع معارضيه فيما بعد.
ولم ينتهِ وجود تلك المنظمة التي كانت تتمركز في الدرجة الأساس في محافظة ديالى شرق العراق إلا أواخر عام 2011، علماً أن مجلس الحكم المنحل أصدر خلال الرئاسة الدورية للراحل السيد عبد العزيز الحكيم في شهر كانون الأول/ديسمبر 2003 قراراً نص على:
1- طرد عناصر منظمة "مجاهدي خلق" الإرهابية من الأراضي العراقية خلال فترة أقصاها نهاية العام الحالي (أي عام 2003).
2- إغلاق مقرات المنظمة ومنع عناصرها من ممارسة أي نشاط لحين مغادرتهم.
3- مصادرة أموالها وأسلحتها وضمّها إلى صندوق التعويضات.
ولكنّ ذلك القرار لم يجد طريقه إلى التطبيق لتقاطعه مع إرادة الاحتلال الأميركي وأجندته في ذلك الوقت. وإذا كانت منظّمة "مجاهدي خلق" قد تواجدت في العراق بقرار وترتيب وتسهيل من نظام الحكم السابق، فإنَّ جماعات أخرى، مثل الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني، وحزب بيجاك (الحياة الحرة)، وحزب الكوملة اليساري، استغلت الظروف غير الطبيعية وضعف سيطرة السلطة المركزية على كل مناطق الشمال، لتنشئ وجوداً لها تنامى واتسع مع مرور الزمن، حالها في ذلك حال حزب العمال الكردستاني التركي المعارض (PKK).
ولعلَّ خروج إقليم كردستان العراق من قبضة السلطة المركزية في بغداد بعد حرب الخليج الثانية عام 1991، والصراعات المتواصلة بين القوى الكردية العراقية، مثّلت عوامل إضافية مساعدة أخرى لتوسع وترسخ وجود الجماعات الإيرانية المسلحة في العراق، ومن ثم لتعزيز ذلك الوجود بفضل الاحتلال الأميركي عام 2003، وما ترتب عليه من حضور عسكري كبير في إقليم كردستان، إلى جانب مظاهر الحضور الأمني والاستخباراتي الواسع للولايات المتحدة و"إسرائيل" وغيرهما.
كلّ ذلك جعل الإقليم خاصرة هشّة في جسد الجغرافيا العراقية، يسهل النفوذ عبرها واختراقها، وبالتالي تمرير أجندات معينة من خلالها تستهدف أعداء واشنطن و"تل أبيب" وخصومهما وحلفاءهما وأصدقاءهما في المنطقة والعالم.
ولا شكّ في أن إيران تعد في طليعة هؤلاء الأعداء والخصوم، وتدميرها أحد مقرات جهاز المخابرات الإسرائيلي (الموساد) في مدينة أربيل قبل نحو 7 شهور، رداً على قصف بطائرات مسيرة من دون طيار انطلق من ذلك المقر لمنشآت إيرانية في مدينة كرمانشاه الإيرانية في وقت سابق، يؤشر إلى ذلك.
قد لا يختلف اثنان على أن العمليات العسكرية الإيرانية، وكذلك التركية في داخل الأراضي العراقية، تسبّب إرباكاً للأوضاع الأمنية واضطراباً اجتماعياً، إلا أنَّ عجز الحكومة العراقية الاتحادية عن فرض سلطتها ونفوذها في كل المناطق، ناهيك بتغاضي السلطات المحلية في إقليم كردستان عن نشاط الجماعات المسلحة وتحركها أو عجزها عن كبح ذلك التحرك والنشاط، ومنع اتخاذ الإقليم منطلقاً لتهديد أمن الجيران، اضطر أنقرة وطهران إلى الرد، مع الأخذ بعين الاعتبار حقيقة أن طبيعة التعاطي التركي تختلف إلى حد كبير عن التعاطي الإيراني، فأنقرة باتت مع مرور الزمن تمتلك العشرات من المقرات والقواعد العسكرية الثابتة التي تضم آلاف العسكريين في مناطق تمتد مئات الكيلومترات في العراق، وتفصح باستمرار عن طموحاتها ومخططاتها بضمّ كركوك والموصل إليها، باعتبارهما كانتا في يوم من الأيام جزءاً من أراضي الإمبراطورية العثمانية، بخلاف طهران التي تكتفي بشن عمليات عسكرية محدودة ومحددة النطاق والأهداف.
باستمرار، يردد المسؤولون الأتراك والإيرانيون في سياق ردهم على ردود فعل بغداد: متى ما انتهى تهديد أمننا من الأراضي العراقية، فسوف نوقف عملياتنا العسكرية. وآخر ما ذكر في هذا السياق ما أكّده اللواء باقري "بأن إيران أبلغت سلطات إقليم كردستان العراق بأن الجماعات الإرهابية إمّا تتحول إلى أحزاب وفصائل مدنية ويُنزَع سلاحها، وإمّا تبقى إرهابية فيتم ترحيلها".
وكذلك، كان السفير الإيراني السابق في العراق إيرج مسجدي قد صرح تعليقاً على تدمير مقر الموساد في أربيل: "لا يمكن أن نتنازل عن أمننا. لقد نبّهنا وحذّرنا مسؤولي إقليم كردستان مراراً وتكراراً. نريد من العراق أن يمنع نشاط الإسرائيليين الذي يستهدف أمننا، لكن إن لم ينجح، فنحن نقوم بذلك".
ويبدو أنَّ المدخل الأساس بالنسبة إلى العراق لمنع عمليات طهران وأنقرة العسكرية في أراضيه يتمثل بإنهاء كل مظاهر الوجود العسكري والأمني المهدد لأمن جيرانه، وهذا لا يمكن أن يتحقّق ما لم تستعد الدولة قوتها وهيبتها وهيمنتها بالكامل، وما لم تتعاون الحكومتان الاتحادية والمحلية في بغداد وأربيل، وتكون هناك قرارات وإجراءات حاسمة وحازمة.
وأغلب الظن أن ذلك غير ممكن التحقّق على المدى المنظور، لأن أزمات العراق ومشاكله الداخلية عميقة وشائكة، وكلّ واحدة منها تؤثر في الأخرى وتتأثر بها، وهذا ما يفهمه الجيران، ولكن ربما من الصعب عليهم تفهمه إلا إذا هدد أمنهم واستقرارهم وقوضه.