الحكومة الإسرائيلية المقبلة وتأكّل نظرية "بوتقة الصهر" لبن غوريون
ما يحدث في كيان الاحتلال ليس بعيداً من سعي نتنياهو لاستخدام بن غفير وسموتريتش لحسم قضايا إشكالية داخلية، مثل القضاء وسطوة "الجيش" وتدخله في القرار السياسي.
نتائج الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة وشكل الحكومة المقبلة بقيادة الرباعي بنيامين نتنياهو وبتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير وأريه درعي أوضحا عمق التأثيرات السلبية في وحدة المجتمع الصهيوني، والصراع على طبيعة "هُوية إسرائيل"، وما يواكبها من إعادة تعريف اليهودي والعديد من القضايا الأمنية الإستراتيجية التي أجّل حسمها عمداً المؤسسون الأوائل للكيان الصهيوني، لعدم إحداثها انشقاقات وللحفاظ على وحدة الكيان الناشئ حديثاً.
اعتمد ديفيد بن غوريون، المؤسس الفعلي للكيان، إستراتيجية تدريجية للانتقال من الهوية اليهودية المرتبطة بالمنفى والنشأة الإثنية لليهود وتحزباتهم أثناء فترة الييشوف قبل إنشاء الكيان، تحت ما يسمى المصطلحات الصهيونية الفكرية "نفي المنفى"، إلى الهوية الإسرائيلية الجامعة لكلّ سكان الكيان التي أطلق عليها نظرية "بوتقة الصهر".
اعتمد بن غوريون في إستراتيجية "بوتقة الصهر" على عدة أدوات، أهمها:
أولاً، "الجيش" الإسرائيلي
أدرك بن غوريون أهمية إقامة جيش عسكري واحد موحد يمثل "إسرائيل" ومستوطنيها، بعيداً من حال العصابات اليهودية التي سادت في فترة الييشوف، وأطلق على "الجيش" الإسرائيلي اسم "جيش الشعب"، لكونه يدرك أهمية دوره في تشكيل الهوية الإسرائيلية الجديدة من خلال تحويله إلى نقطة التقاء الكلّ اليهودي الصهيوني خلال الخدمة العسكرية الإلزامية في "الجيش".
أضف إلى ذلك قناعة بن غوريون، أول وزير "أمن" للكيان الإسرائيلي، وواضع مرتكزات العقيدة العسكرية الإسرائيلية، أن لـ"الجيش" مجموعة من المهامّ المجتمعية والاقتصادية والتعليمية والسياسية والاستيطانية. لذلك، لم يتردد بعد أقل من أسابيع على إقامة الكيان الإسرائيلي في أخذ قرار بحلّ كل العصابات العسكرية اليهودية ودمجها في الجيش الناشئ، بما فيها وحدة النخبة للهاغاناه الصاعقة "البلماخ".
وهنا، يذكر التاريخ الصهيوني المعاصر حادثة سفينة "التلينا" التي قُتل فيها ما يقارب 16 صهيونياً من عصابة "الغيتسل". كل ذلك من أجل تكريس احتكار السلاح والعسكرة في "الجيش" فقط.
ثانياً، النظام التعليمي في "إسرائيل"
أدرك بن غوريون مبكراً جداً أهمية النظام التعليمي في الكيان الناشئ، لما يحمله من دور مهم في صنع الهوية الإسرائيلية، وتعزيز الرواية الصهيونية التاريخية التلمودية الكاذبة، والأهم إتاحة الفرصة لكل اليهود لتطوير ذواتهم والحد من الفروقات الاجتماعية الطبقية، لكون التعليم أهم مرتكز يدخل في التفاوت الطبقي بين الفئات اليهودية الاستيطانية.
لذلك، اتخذ الكنيست عام 1953 قانون أساس التعليم الإسرائيلي، الذي عُدَّ بمنزلة ثورة تصحيحية لحال التشرذم في المناهج التعليمية الرسمية في "إسرائيل"، والتي ورثتها من فترة الييشوف.
ثالثاً، الكراهية للفلسطينيين والعرب
جنَّد الآباء المؤسسون للكيان الصهيوني، بشقيه العلماني العمالي بقيادة بن غوريون والعلماني اليميني بقيادة زئيف جابوتنسكي، الخوف الفطري لأولئك المستوطنين الصّهاينة الطارئين على أرض فلسطين من مقاومة الفلسطيني، من خلال منظومة متشابكة تكامل فيها "الجيش" والإعلام والفكر والتعليم والاقتصاد، من أجل خلق قاسم مشترك من الكراهية تجاهه يوحّد الفسيفساء الإسرائيلية داخلياً من خلال صناعة التهديد المشترك.
أنتجت التغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في خريطة مركز القوى الإسرائيلية على مدار 73 عاماً من عمر الكيان تحديات جدية وجذرية أمام إستراتيجية "بوتقة الصهر" الإسرائيلية الهادفة إلى صنع الهوية الإسرائيلية المشتركة.
يكفي لمعرفة حجم هذه التغيرات متابعة تصريحات قادة "الجيش" والمؤسسة الأمنية وما يتحدث عنه كبار المحلّلين السياسيين في استديوهات التحليل ونشرات الأخبار عن شكل الحكومة الإسرائيلية القادمة وآثارها السلبية، ولكن ليس في النسيج الاجتماعي الإسرائيلي ومنظومة التعليم، الأمر الذي زاد توترات الشرخ العلماني الديني إلى درجات غير مسبوقة.
إنّ التأثيرات الأهم تتركّز على دور مؤسسات الحكم وكيانيتها في "إسرائيل"، وفي مقدمتها "الجيش" الإسرائيلي، المؤسسة الأهم فيها، التي بات مفهوم احتكارها للقوة العسكرية في "إسرائيل" يتراجع بعد إعلان الاتفاق على نقل صلاحيات كتائب حرس الحدود في الضفة الغربية البالغ عددها 2000 جندي من قيادة المنطقة الوسطى في "الجيش" إلى وزير "الأمن" القومي، المسمى الجديد لميلشيات بن غفير، لكنها هذه المرة ليست عصابات خارجة عن القانون، كما كانت مجموعات الحاخام الإرهابي مائير كهانا أو مليشيات "شبيبة التلال"، بل بغطاء قانوني رسمي، إلى درجة أن بعض الجهات الأمنية في "إسرائيل" قال: "أنشأوا جيشاً خاصاً لبن غفير"، وكأن "إسرائيل" تعود إلى فترة العصابات اليهودية قبل تأسيس الكيان.
في المقلب الآخر، طالب سموتريتش بنقل صلاحيات الإدارة المدنية الإسرائيلية في الضفة الغربية من "الجيش" إلى وزارة المالية التي يطالب بتوليها، ليكسر احتكار سيادة "الجيش" الإسرائيلي على ملف الاستيطان والتعامل مع الجبهة الفلسطينية الأهم في الصراع.
ما يحدث ليس بعيداً من سعي نتنياهو لاستخدام بن غفير وسموتريتش وأدرعي لحسم قضايا إشكالية داخلية، مثل القضاء وسطوة "الجيش" وتدخله في القرار السياسي، إضافة إلى أن إرباك المشهد السياسي الداخلي في "إسرائيل" يصب في مصلحته لكي يمرر القوانين التي تجنّبه المحاكمة، من خلال تدمير المنظومة القانونية، وسحب صلاحيات المحكمة العليا؛ آخر معاقل العلمانيين اليساريين، التي لم يجرؤ مناحيم بيغن ذاته على المساس بها، وهو صاحب مقولة: "هناك قضاة في القدس"، في إشارة إلى احترامه المحكمة العليا وقراراتها.
أضف إلى ذلك تدخل نتنياهو الواضح في تعيين القضاة وإمكانية إلغاء منصب المستشار القانوني للحكومة، لتصبح المنظومة القضائية الإسرائيلية من دون صلاحيات فعلية.
لذلك، نجد أنَّ نتنياهو مستعدّ للتنازل عن قضايا مركزية لها علاقة بهوية الكيان وإدارة الصراع مع الفلسطيني، مثل الاستيطان في الضفة الغربية، والعمل على تهجير فلسطينيي الـ48، لكون ذلك بات محل إجماع صهيوني، وخصوصاً بعد معركة "سيف القدس" وتنامي الانتفاضة في الضفة والقدس، من أجل إحكام سيطرته على مقاليد الحكم تماماً وعدم خروجه من مقر رئيس الوزراء في شارع بلفور مرة أخرى.