"الجهاد الإسلامي" واستراتيجية المقاومة المستمرة
مشروع الجهاد الإسلامي في جوهره هو قتال العدو ومقاومة الاحتلال حتى تحرير فلسطين، وهو مبرر وجود الحركة، كما قال مؤسسها فتحي الشقاقي.
كان والدي (رحمه الله) في سبعينيات القرن العشرين من عشّاق سماع هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، ولا سيما في ساعات المساء، بعد أن يعود من عمله، وكانت تقريباً نافذته الوحيدة لمعرفة أخبار المنطقة والعالم.
وكان أحياناً يستمع إلى إذاعة منظمة التحرير الفلسطينية (صوت فلسطين – صوت الثورة الفلسطينية) لأخذ جرعة من الحماس الوطني، وكان نادراً ما يستمع إلى إذاعة "صوت العرب" لعدم ثقته بأخبارها بعد نكسة حزيران.
ولذلك، تشكل وعيي السياسي والوطني مبكراً من هاتين النافذتين، وخصوصاً إذاعة "صوت الثورة الفلسطينية"، التي تبدأ بثها بالنشيد الوطني الفلسطيني (فدائي)، ثم افتتاحية الإذاعة اليومية التي تختصر المشروع الوطني الفلسطيني من حيث الهدف والوسيلة والاستراتيجية، فالهدف (تحرير كامل الوطن المحتل... تحرير فلسطين كل فلسطين)، والوسيلة (الكفاح المسلح)، والاستراتيجية (الحرب الثورية الطويلة الأمد).
الحرب الثورية الطويلة الأمد، بمعنى المقاومة الشعبية المستمرة، نصَّ عليها الميثاق الوطني الفلسطيني في بنده العاشر. ومما جاء فيه: "العمل الفدائي يشكل نواة حرب التحرير الشعبية الفلسطينية... ضماناً لاستمرار الثورة وتصاعدها وانتصارها".
وفي تراث الثورة الفلسطينية الثقافي، سُميّت "حرب التحرير الوطنية"، التي تسعى فيها الشعوب الواقعة تحت الاحتلال الأجنبي إلى تحرير وطنها -الأرض والشعب- من قبضة الاحتلال، وتعتمد على استراتيجية المقاومة المستمرة بكل وسائلها، وذروة سنامها الكفاح المُسلح، من أجل استنزاف العدو المُحتل مادياً وبشرياً ونفسياً، وصولاً إلى تحطيم إرادته القتالية والسياسية، حتى يقتنع بعدم جدوى الاحتلال، نظراً إلى ارتفاع كلفته البشرية والمادية الباهظة الثمن، فيدفعه ذلك إلى الانسحاب جزئياً أو كلياً، كما حدث في جنوب لبنان في العام 2000م، وقطاع غزة في العام 2005م، وكل حروب التحرير الوطنية، من الجزائر شرقاً إلى فيتنام غرباً، وعشرات الشعوب الحرة التي طردت الاحتلال وانتزعت حريتها بمقاومتها ونضالها وتضحياتها.
صوت الثورة الفلسطينية -إذاعةً ومنظمةً وفكراً- خفت وضعف بعد حرب لبنان الأولى في العام 1982م، وخروج المنظمة من لبنان، وتشتت قواتها العسكرية في صحاري التيه العربي، وتشتت فكرها السياسي في متاهات الواقعية الثورية والانتهازية السياسية.
في الوقت نفسه، بدأ يعلو ويقوى صوتٌ آخر للثورة الفلسطينية بهويتها الوطنية والقومية والإسلامية، ومزاوجتها بين القرآن والبندقية، وجمعها بين الإسلام كمرجعية ومنطلق، وفلسطين كهدف وقضية، والجهاد كوسيلة ومقاومة. هو صوت المفكر الشهيد فتحي الشقاقي، الذي بنى نظريته الثورية وأطروحته النضالية من عقيدة الجهاد في سبيل الله، وتاريخ الأمة الإسلامية، ونضال الشعب الفلسطيني، مُستلهماً روح الثورة الإسلامية التي انطلقت من غار حراء وحطت رحالها في فلسطين، ليستعيد روحها أبطال الثورة الفلسطينية، أمثال عز الدين القسام، وعبد القادر الحسيني، ومحمد جمجوم، وفؤاد حجازي، وعطا الزير، وغيرهم، فكانت نظريته وأطروحته تصهر الإسلام وفلسطين والجهاد في بوتقة مشروع حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين.
مشروع الجهاد الإسلامي في جوهره هو قتال العدو ومقاومة الاحتلال حتى تحرير فلسطين، وهو مبرر وجود الحركة، كما قال مؤسسها الشقاقي: "إنَّ مبرر وجودنا الأساسي هو الجهاد المسلح ضد الاحتلال الصهيوني. هذا الجهاد سوف يستمر بلا توقف، مهما كان حجم الصعوبات والضربات والتضحيات".
إنّ استمرار الجهاد بلا توقف حتى تحرير فلسطين هو ببساطة مشروع الجهاد الإسلامي، لأنَّ انتهاء الجهاد والمقاومة قبل التحرير سيؤدي إلى تكريس الوجود الصهيوني على أرض فلسطين، كما أنَّ إبقاء جذوة الصراع والجهاد والمقاومة مشتعلة سيساهم في استنهاض الأمة وتحقيق وحدتها حول فلسطين، واستغلال جزء من طاقاتها في مواجهة الكيان الصهيوني، كإفراز للمشروع الغربي الاستعماري ضد الأمة، أو على الأقل تكوين جبهة فلسطينية عربية إسلامية موحّدة ممن يؤمنون بحتمية زوال الكيان الصهيوني وتحرير فلسطين، ويشكلون معاً محوراً للمقاومة بوصلته القدس، وإبقاء المعركة مفتوحة مع الاحتلال يحقق توازن الرعب مع العدو على طريق النصر النهائي عليه.
الجهاد المتواصل والمقاومة المستمرة يعنيان إبقاء جذوة الصراع مشتعلة وراية المقاومة مرفوعة، أي مشاغلة العدو بالعمليات الفدائية والمقاومة الشعبية، لمنعه من الإحساس بالأمن والاستقرار، وتعميق مأزقه الأمني والوجودي، وتقويض أساس المشروع الصهيوني وكيانه ممثلاً بالأمن والهجرة والاستيطان، وإجهاض مشاريع الكيان الصهيوني في التعايش مع الاحتلال، سواء بالأسرلة أو الترويض أو الحصار، وعرقلة مشروع "إسرائيل الكُبرى" بالمفهوم السياسي الذي بدأ بـ"السلام" والتطبيع وانتهى بالتحالف والهيمنة.
إنَّ استراتيجية المشاغلة بالمقاومة هي الطريق إلى مراكمة القوة؛ قوة المقاومة بمراكمة خبراتها ونقاط قوتها وإنجازاتها، وقوة الشعب بتعزيز ثقته بنفسه وعوامل صموده وثباته، وقوة الأمة بزيادة فاعليتها وتصويب بوصلتها نحو فلسطين، وهذا لا يعني بالضرورة عدم وجود فترات هدوء جبرية أو طوعية تحت أي مُسمّى مُستخدم، كالتهدئة والهدنة وغيرهما، نتيجة ظروف ذاتية وموضوعية فرضتها طبيعة الصراع، ولكن من دون أنْ تخل باستراتيجية المقاومة المستمرة.
وتأكيداً على تلك الاستراتيجية، جاء في الوثيقة السياسية لحركة الجهاد الإسلامي: "النهج الثابت للجهاد والمقاومة هو استمرار المواجهة مع العدو الصهيوني، واستنزاف طاقاته وقدراته، وزعزعة أمنه واستقراره، لإجباره على الرحيل عن أرضنا، وصولاً إلى التحرير الكامل لفلسطين، الذي هو مهمة تاريخية إنسانية كُبرى تحقّقها أجيال الأمة العربية والإسلامية، وفي طليعتها الشعب الفلسطيني، وتتطلب دعم كل أحرار العالم وتأييدهم".
إنّ استراتيجية المقاومة المستمرة والمحافظة على جذوة الجهاد مشتعلة في فكر الجهاد الإسلامي هما ما يُفسّر نهجها العملي المقاوم منذ نشأتها في غزة، وحتى آخر طلقاتها وشهدائها في جنين، مروراً بثورة السكاكين، وتفجيرها انتفاضة الحجارة، ومشاركتها في انتفاضة الأقصى، وعملياتها الفدائية والاستشهادية، ودورها في طرد الاحتلال والاستيطان من غزة، وخوضها بعد ذلك عشرات المعارك منفردة أو مجتمعة مع الفصائل الفلسطينية المقاومة، وآخرها "سيف القدس" ومواجهات كتيبة جنين بعدها...
هكذا، سيبقى نهج المقاومة مستمراً، وستبقى جذوة الجهاد مشتعلة، حتى تكتمل دائرة النصر باكتمال دورة الحضارة عند محطة وعد الآخرة، عندما يخرب اليهود الصهاينة كيانهم بأيديهم، ثم يخربُ كيانهم بأيدي المؤمنين؛ عباد الله أولي البأس الشديد.