التشظي الانتخابي الأميركي وشبح المثلية والعنف والموت
الانشطار في المجتمع الأميركي، بما أفرزه الشارع الانتخابي، بين نزعات مثليّة محمومة وشطحات يمينية عنيفة، يضع أميركا، ومن خلفها العالم، في أتون قلاقل اجتماعية متعاظمة لن يكون من السهل كبح جماحها.
برز شبح المثلية في كواليس الانتخابات الأميركية النصفية، في تجاوز حادٍّ لصراع الأجندات الطاغية بين جمهوري محافظ وآخر عنيف، وبين ديمقراطي ليبرالي وآخر مثليّ، ولما هو أبعد من الأحقاد الشخصية بين ترامب وبايدن، بما يسلّط الضوء على مستوى التشظي الاجتماعي في أبرز تجلياته السياسية، فقد انتخبت امرأة تجاهر بمثليتها الجنسية، وحصلت أخرى على أعلى الأصوات في ولاية ثانية، وشارك المثليّون في انتخابات كل ولايات أميركا الخمسين، بما فيها العاصمة واشنطن.
وتجاوز المنحدر الانتخابي شطط المثليّة لما هو شبح الأموات، عندما برز اثنان من أموات أميركا في لوائح الفائزين في هذه الانتخابات، فقد أعيد انتخاب أنتوني ديلوكا، الذي توفي في 9 تشرين الأول/أكتوبر، بنسبة 85% من الأصوات، وانتخبت النائبة باربرا كوبر، التي توفيت في 25 تشرين الأول/أكتوبر، بعدما فازت بنسبة 86% من الأصوات.
وقد تم تبرير ذلك بوفاتهما المتأخرة التي حالت دون شطب اسميهما، ولكن كيف أمكن للناخب الأميركي أن ينتخبهما؟ ألم يعلم بوفاتهما؟! هذا ما يطرح سؤال الفجوة العميقة بين الناخب والمنتخب وظهور الأشباح خلف ستار الموت والمثلية الجنسية.
ولاية ماساتشوستس هي موطن أول حديقة عامة ومدرسة ومكتبة في أميركا، وأول مصانع الحديد، وأول مطبعة، وأول معركة للثورة. لم تُبنَ ماساتشوستس على الانقسام أو الخوف. لقد تم بناؤها على الشجاعة، من خلال العمل معاً لإنجاز كل الأمور. هذه ولاية ماساتشوستس، بحسب تعبير الديمقراطية مورا هيلي، الحاكمة المنتخبة الآن للولاية من قبل الغالبية العظمى لملايينها السبعة، بعدما هزمت الجمهوري المنافس.
جاهرت مورا هيلي بمثليتها الجنسية، وراكمت فعالياتها ضمن ما يطلق عليه مجتمع الميم "مثلي، مزدوج، متحول، متحير" لدعم قوانين زواج المثليين وتشريع الإجهاض وكل ما من شأنه تعزيز التغيرات الشعورية المنافية لطبيعة خلق الإنسان، ذكراً كان أو أنثى.
النشاط المثلي غير المسبوق في أميركا، في وقت سبق للبرلمان البريطاني أن دخله عدد من النواب المثليّين، وتم فيه تشريع قوانين تسمح بالزواج المثلي، حتى جاهر النائب البريطاني نيكولسون بوصف البرلمان البريطاني بأنه "الأكثر مثليّة في العالم"، يؤشر إلى تحولات اجتماعية حادّة في المجتمعين البريطاني والأميركي، وبينهما الرابط البروتستانتي الذي يُفترض أن يكبح جماح هذا التحوّل الخارق للروابط الدينية كافة.
انتشر المثليّون في القوائم الانتخابية الأميركية، وحتى في الأوساط المحافظة، إذ احتلت نسبة 10% منهم الوسط الجمهوري، وهو وسط يكافح في جملته ضد القوانين الليبرالية التي تعزز ميوعة المجتمع وانفراط عقد تماسكه الأسري، وترفض ما سبق تمريره من تشريع الإجهاض، وتستخفّ بالدين، وتنظر إلى المساواة المجتمعية انطلاقاً من تحولاتها الطارئة.
وقد تجاوز الصعود المثلي ولاية ماساتشوستس نحو ولاية أوريغون، التي أعطى ناخبوها الخمسة ملايين نصيب الأسد في أصواتهم للمثليّة الديمقراطية تينا كوتيك، وإن لم تؤهلها لحصد الأغلبية، بما يتطلَّب الإعادة، ولكنها تعكس في كل الأحوال مزاج الناخب الأميركي في تأييده أو في الحد الأدنى تسامحه مع الميول المثلية، وهي ميول تناقض تعاليم الكنيسة من جهة، وتأخذ المجتمع نحو مزيد من التفكك وتشجيع النزعات الفردية من جهة ثانية.
حاولت مورا هيلي رسم صورة وردية لما أفضت إليه ولايتها في انتخابها لتحكمها، باعتبارها البيئة الأميركية الخصبة لأول حديقة ومدرسة ومكتبة ومطبعة وصناعة، بما خلق فيها الثورة على الخوف، ولسان حالها يرى في الخوف تعبيراً عن كبت الشعور المثلي، وهو شعور تعطيه أولوية للمساواة مع الشعور الفطري، والتشجيع على الإجهاض الناتج من العلاقات غير الأسرية، وهي علاقات تدفع ملايين المراهقين نحو العنف. وقد أخذت تجلياته تظهر في المدارس الأميركية بما يفوق مثيلاها حتى في الدول النامية.
تشظي المنظومة الاجتماعية الأميركية على خلفية النشاط المثلي المحموم في دولة عملاقة على جميع الصعد، وخصوصاً العسكري، يفتح الباب على مصاريعه أمام الخطر المتعاظم الذي يمثله الأميركي في العالم، في وقت صارت الانتخابات تنتج مثليين ومغامرين وأمواتاً ضمن لعبة عبثية مُسَخّرة لتمزيق المجتمعات وتحويل الإنسان إلى مكبّ نفايات سامّة، ليس فيه بقية قيم ولا مثل جماعية، ولكنه الفرد الذي يأخذه شعوره وميله الطارئ أو هو الهوى المتبع، بحسب التعبير القرآني، إلى حيث لحظته الشعورية المتمردة على الإيقاع الاجتماعي.
وكانت القوانين الأميركية الصارمة حائط الصدّ الأخير في ضبط التحولات الاجتماعية. ولعل وفاة قاضي المحكمة العليا الأميركية البارز أنطونين سكاليا عام 2016 شكّلت نقلة فارقة في التاريخ الأميركي، باعتباره الأيقونة الدستورية المحافظة في العقل القانوني.
وكانت المحكمة الدستورية منذ تشكلها عام 1789 تحافظ على النمط الاجتماعي القريب إلى الروح المسيحية، وكان سكاليا بصفته كاثوليكياً متديناً شغل منصبه مدة 3 عقود، أعمق تعبير على قوة هذه القوانين وطبيعتها، فهو مثلاً لم يؤمن بتحديد النسل. وقد أنجب من زواجه 9 أنباء من الذكور والإناث، وكان أحد أولاده قساً كاثوليكياً، وهو الذي قرأ الصلاة على جثمانه.
بين وفاة القاضي المحافظ سكاليا، الذي اضطر وقتها بايدن إلى أن يصلي عليه خلف رئيسه أوباما، وخطابه اليوم عقب الانتخابات النصفية، لحظة فارقة تعهد فيها بايدن بالفيتو في وجه أي قانون يقرّه الكونغرس لحظر الإجهاض، في تأكيد منه لطبيعة التوجهات الجديدة في الشارع الأميركي، والتي لن يحدّ منها نجاح الجمهوريين النسبي في مجلسي الشيوخ والكونغرس، وهو نجاح عكس توجهات طيف اجتماعيّ آخر من حيث النزعات اليمينية العنيفة الآخذة في التمدد في المجتمع الأميركي، والتي بلغت ذروتها في اقتحام الكابيتول عقب هزيمة ترامب في الانتخابات الرئاسية.
هذا الانشطار في المجتمع الأميركي، بما أفرزه الشارع الانتخابي، بين نزعات مثليّة محمومة وشطحات يمينية عنيفة يضع أميركا، ومن خلفها العالم، في أتون قلاقل اجتماعية متعاظمة لن يكون عندها للقوانين الصارمة ولا للضبط الأمني ولا حتى اللعبة الانتخابية قدرة على كبح جماحها. وقد خرج منها الغول الغرائزي ليبتلع آدميته، ويحوّل البشر إلى قطيع متحرر من ضوابطه التي خلقه الله عليها.