البيان الأوروبي الثلاثي والتوعد الإيراني بحتمية الرد
هل بالفعل أوروبا قلقة من توسع حالة الحرب؟ وهل يضيرها عدم الاستقرار في الشرق الأوسط؟ وبالتالي، هل سياسة هذه الدول محكومة بالعامل الأخلاقي الإنساني أو حتى القانوني؟
تحرص النخبة السياسية المتنفذة في أوروبا على الظهور في مظهر حضاري، عبر النأي بالنفس عن الجرائم الإسرائيلية، وآخرها الوحشية المتواصلة في غزة، لكن هذه السياسة تخضع للكوابح التأصيلية في الفكر الغربي عند مفاصل الطرق، لتبرز وجهها القبيح فتتعرى كيوم وعد بلفور، وبالأحرى تتماهى مع العري الأخلاقي المصاحب للحظة التكوين الثقافي الحضاري.
جاءت الانتخابات الأخيرة في بريطانيا وفرنسا مع بعض التغير في سياسة ألمانيا، لتظهر أوروبا عبر مكونها الأساس في هذه الدول، كأنها تجاوزت حالة الاندفاع المجنون نحو الكيان الإسرائيلي تضامناً بعد السابع من أكتوبر.
وبالفعل، حدثت تعديلات في سياسة هذه الدول في هذا الخصوص، لكن التطورات جاءت لتذكرنا، كعرب ومسلمين ومعنا كل شعوب العالم، بأن العقل الأوروبي في تكوينه الأساس لا يغادر المربع التأصيلي الأول المحكوم للفكر والخط السياسيَّين المتأثرين بعوامل ناظمة لهذا العقل، وهي تظهر إفرازاتها الخبيثة حتى ضد اليابان، لأنها امتنعت، هذا العام، عن دعوة الكيان الإسرائيلي إلى المشاركة في إحياء ذكرى الهجوم الأميركي النووي ضدها، فتضامنت معها هذه الدول الأوروبية وامتنعت عن المشاركة.
أظهر البيان الثلاثي البريطاني الفرنسي الألماني، في دعوته إيران إلى الامتناع عن الهجمات الانتقامية ضد الكيان الإسرائيلي، مدى فعّالية الفكر الغربي الاستكباري في السياسة الأوروبية، والتاريخ الأوروبي طافح بالهجمات الانتقامية، بل بالهجمات الاستعمارية ضد الشعوب المستضعَفة. وهنا مثّل خضوع النخبة السياسية الأوروبية، الأقل تطرفاً، للمصالح الإسرائيلية، مدى شطط هذا الفكر في انقياد كامل المنظومة الأوروبية لمكونه القائم على الغرور والكبر، وهو يتجلى هنا ضد حق إيران في الدفاع عن نفسها في مواجهة كيان يقصف قلب عاصمتها، ويغتال ضيفاً عزيزاً على شعبها وحكومتها وقيادتها.
يعكس ارتهان كل شرائح النخب الأوروبية السياسية للتأثير الأميركي، ومن خلفه الإسرائيلي، حقيقة علاقة الفكر والتأصيل الحضاريين والقيم الإنسانية والشعور النفسي الأوروبي، بالفعل السياسي، وهو فعل يجامل الضحية الشرقية أحياناً، لكنه يشارك في إثخانها في كل حلقات مسلسل الإجرام الإسرائيلي الأميركي، وهو يعي أن الرد الإيراني ليس فقط رداً قانونياً تكفله كل الشرائع الدولية والحقوقية، لكنه رد يرفع عن الضحية الفلسطينية في غزة ما يُثقل كاهلها في محاولة الاستفراد بها، في وقت يدير فيه هذا الكيان وجهه عن القانون الدولي والقرارات الأممية، بل مقررات مجلس الأمن ومحكمة العدل والجنائية الدولية، ولم يصدر عن أوروبا مواقف للضغط على الكيان لإجباره على الانصياع لهذه المقررات.
يأتي التوعد الإيراني بالرد، وهو قيد التنفيذ في أيّ لحظة مواتية، ليمثل صعقة عالمية تغرد خارج حالة الصمت الدولية على الجرائم الإسرائيلية. فما الذي يفزع الألماني والفرنسي والبريطاني، وانضم إليه الإيطالي لاحقاً، من هذا التوعد بالرد؟ هل بالفعل أوروبا قلقة من توسع حالة الحرب؟ وهل يضيرها عدم الاستقرار في الشرق الأوسط؟ وبالتالي، هل سياسة هذه الدول محكومة بالعامل الأخلاقي الإنساني أو حتى القانوني؟
يدرك الغرب أن العالم يقف أمام منعطف طرق حاسم، ليتقرر مصيره عبر نتائج طوفان الأقصى، ومستوى الضرر الاستراتيجي الذي سيخلفه في الكيان الإسرائيلي، لأن هذا الكيان يمثل طليعة غربية مسلحة في قلب الشرق، بالسلاح الغربي العسكري والتكنولوجي والتجسسي والثقافي والفكري والنفسي. وإذا كانت أوكرانيا استدعت الحرب ضد روسيا في قلب أوروبا، وهي مجرد حائط جغرافي بشري بين سياسات الغرب وثقافته، وبين رؤية حضارية دولية تمثلها السياسة الروسية في كل المجالات، وهي بمجموعها لا تشكل انقلاباً جذرياً شاملاً في الحضارة الغربية، فكيف تكون الحال مع ما تمثله إيران من مشروع إقليمي يتسع بالتدريج، وهو يناطح طليعة الثقافة الغربية في الكيان الإسرائيلي؟
يصعب الفصل بين السياسات الأوروبية المرتهنة للنخبة الحاكمة في أميركا، وبين التأثير، فكرياً وثقافياً. والسياسة هنا وليدة هذا التأثير القذر، وهو يناقض بيانات الشجب والإدانة للجرائم الإسرائيلية، لكنه يصمت عن مجرد المس بالمجرم، في أي مستوى اقتصادي أو سياسي، بل يتدخل لمصلحة المجرم كلما حاولت الضحية أن ترفع رأسها للدفاع عن نفسها على مدى سبعة عقود، ويحاول ثني الدول المجاورة عن القيام بواجبها، شرعياً وأخلاقياً، في الدفاع عن نفسها ضد العنجهية الإسرائيلية، وإلا فما تفسير عشرات الرحلات المكوكية الفرنسية للبنان منذ الثامن من تشرين الأول/أكتوبر؟
يأتي البيان الأوروبي الثلاثي ليخاطب الرئيس الإيراني الجديد، مسعود بزشكيان، كونه رئيساً إصلاحياً، دخل الانتخابات الإيرانية ضمن مشروع إصلاحي ينصبّ أكثره في مجال السياسة الخارجية. وكما أعلن أنه في صدد إخراج إيران من دائرة الحصار الدولي، وخصوصاً الأوروبي، نظراً إلى المصالح الاقتصادية الواسعة بين أوروبا وإيران في مجالات الطاقة والتجارة والصناعة، على رغم العقوبات الأميركية وخضوع أغلبية الشركات الأوروبية لهذه العقوبات طمعاً في امتيازاتها الهائلة داخل أميركا، فإن أوروبا تعي أنه يمكنها الضغط على هذا الرئيس في هذا الخصوص.
لكن الأوروبي يجهل أو يتجاهل أن محددات السياسة الإيرانية الخارجية تتمحور حول فلسطين، عند كل أطياف الفكر الإيراني، وإن خضعت لنسبة وتناسب، بينما المحدد الديني، بالنظر إلى الصراع مع الكيان الإسرائيلي، محدد يوازي ويتجاوز الثابت النووي في السياسة الإيرانية المجمَع عليها في عقل الدولة، وليس النظام أو الحكومة فحسب.
فكيف والحال أن الرئيس الجديد لم يصبح إلا والكيان يغتال ضيفه على المستوى الشخصي، فالشهيد إسماعيل هنية كان في حفل تنصيب هذا الرئيس، فهل يعقل أن يتجاوز الرئيس في يومه الأول إهانة بهذا الحجم الثقيل، مع ما تحمله من تغيير لموازين استراتيجية سيدفع الرئيس ثمنها إن رضخ لمعاييرها. لذا، جاء رد الرئيس الإيراني على الدعوات الأوروبية رداً حاسماً، وهو يذكّرها بالقوانين الدولية، ويطالبها بمسؤولياتها في لجم الإجرام الإسرائيلي، وأن كل الدول التي اتصلت بإيران أبلغتها حقها القانوني في الرد.
تذكّرنا أوروبا، عند كل مناسبة مؤلمة أو مفرحة، بأنها حليف ومكون رئيس في الإجرام الغربي التاريخي والواقعي ضد الشعوب الإسلامية والأفريقية واللاتينية، بل ضد الشعوب الأوروبية والأميركية ذاتها، وفي أصل مكونها الإنساني. وهي شعوب تعي أن الحركة الصهيونية أكبر تهديد للسلم العالمي، وأن حجم الجريمة المتواصلة في غزة يمثل سقوطاً غربياً أوروبياً وأميركياً في الاختبار، أخلاقياً وثقافياً وقانونياً، ليأتي الرد الإيراني القادم مع رد المحور في لبنان واليمن والعراق، وربما دول أخرى، ليعاقب هذا الكيان ومن خلفه كامل منظومة تحالفاته. ولعل هذا ما أطلق السعار الأوروبي ضد إيران، وما يمثله ردها القاسي من قلب لموازين القوى في هدير الطوفان.