البرلمان البحريني ضحية المشكلة الوجودية

والمرشحون الطارئون -وهم الأغلب في هذه الدورة- صاروا سبباً للسخرية وحديث المجالس، بسبب حملاتهم الانتخابية اللامنطقية، التي تنمّ عن فقر معرفي وقانوني وسياسي بمهام النائب.

  • البرلمان البحريني ضحية المشكلة الوجودية
    البرلمان البحريني ضحية المشكلة الوجودية

تشهد مملكة البحرين تنافساً على مقاعد مجلس النواب الأربعين المتوزعين على 40 دائرة انتخابية و55 مركز اقتراع عاماً وفرعياً، فيما سيقترع البحرينيون في الخارج من خلال 37 مركزاً للاقتراع والفرز، وسينتخب المواطنون أعضاء البرلمان في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، بيد أن المعارضة تقاطع الانتخابات للمرة الثالثة بعد أحداث 2011، لأنَّ الوضع السياسي في البلد لا يزال ثابتاً على رتابته، في الوقت الذي تمارس الأوامر الملكية والسلطة التنفيذية كلّ الصلاحيات، ويُسيّس القضاء، وتفرغ السلطة التشريعية من محتواها عبر مجلس يعيّنه الملك، وهو مجلس الشورى، وآخر منتخب بلا صلاحيات حقيقية، وهو مجلس النواب.

المفارقة التي يشهدها عام 2022 مع كل ملفات المنطقة والعالم الثقيلة والمفتوحة على أكثر الاحتمالات خطورة، هي أنَّ السلطة في البحرين مستمرة في هندسة الحياة السياسية بطريقة لا تدع مجالاً للشكّ في أن مصلحة النخبة الحاكمة هي الأهم، فيما يُستنزف المواطنون في عجلة معيشية سريعة وخانقة، لتكون حياتهم ركضاً لتأمين الحياة الكريمة، وتغيب -أو تغيّب- المشكلة السياسية الحقيقية.

وفي ظل هذه الثنائية -أي انشغال المواطن بمعيشته ونسيانه المشكلة السياسية- تتمادى السّلطة في علاقتها بالكيان المؤقت، وتتوغّل أكثر في تعميق الوصال مع الصهاينة على كلّ الصعد.

صنع المشاغلة بتفريع المشكلة المعيشية 

من أجل تلك السياسة، عمدت الحكومة إلى تفريخ المشكلة المعيشية، فهي لم تكتفِ بصندوق التقاعد، ولم ترعوِ عن إبقاء ملف الإسكان على حاله، ولم تتوقف عند الضرائب، ولم تحل مشكلة التضخم أو تساهم في تخفيفه، رغم زيادة أسعار النفط، بل وصل الأمر إلى استصدار جامعة البحرين (الجامعة الوطنية الأكبر في البلاد. تأسست عام 1986) قراراً بإلغاء المواصلات الجامعية التي يعتمد عليها أكثر الطلاب والطالبات.

تسبّب هذا القرار في دفع الناس إلى النقل الخاص أو السيارات الشخصية، ما أربك حركة المرور في البلاد، إذ إنّ الجامعة تضم 27 ألف طالب وطالبة، وأكثر من 1500 موظف وموظفة، ما تسبّب باختناقات مرورية كبيرة، رغم أن المواصلات الجامعية، وبحسب خبير اقتصادي بحريني، لا تكلف أكثر من نصف مليون دينار (نحو 1.5 ملايين دولار).

هذا القرار يعد من القرارات التي خلقت بلبلة مجتمعية جديدة، تضاف إلى الفوضى التي خلقتها قرارات سابقة تخص المواطن مباشرة في معيشته وحاضره ومستقبله. بمعية ذلك، لم يعد البرلمان موئلاً لتنفس الناس من القرارات المجحفة، ولا مساحة تشريعية تحمي المواطنين، لسببين، أولاً: لأنَّ صلاحياته الذاتية محدودة، وثانياً: لأنَّ قانون العزل السياسي الذي يقضي بإقصاء كل منتمٍ إلى الجمعيات المنحلة من الترشح، فتح المجال للطارئين على السياسة بدخول المجلس طلباً للمغانم الشخصية، من راتب وعلاوات وامتيازات.

والمرشحون الطارئون -وهم الأغلب في هذه الدورة- صاروا سبباً للسخرية وحديث المجالس، بسبب حملاتهم الانتخابية اللامنطقية، التي تنمّ عن فقر معرفي وقانوني وسياسي بمهام النائب، لكن لا يُلام الطارئ إذا ما رشح نفسه طلباً لراتب مريح سيغير حياته رأساً على عقب، وسيدر على عائلته حياة رغيدة فارهة، فإن كان طارئاً ويحتاج إلى المال واقتحم هذا المجال، فما عذر السلطة في تذخير البرلمان بكومة من السخرية والتندر، وجعله قِبلة لليأس ومكاناً للبطالة المقنعة؟ هل عذرها أنها تستكمل ثأر 2011، لتهمّش كل ما له علاقة بالمعارضة التي تقدمت بمشاريع وطنية تصبّ في مصلحة الحاكم والمحكوم، وتأخذ بيد السني والشيعي وكل المكونات للخير، عبر نظم القوانين ومأسسة القرارات والبحث عن مواطن الفساد وسدها ومكامن العجز وعلاجها؟

هب أنَّ السلطة تريد أن تطبّع مع الكيان الزائف، وتشغل المواطن بالمعيشة الخانقة. وفي سبيل هذا الغرض، تحتاج إلى تهميش المعارضة وإيذائها، لكي لا يفكّر أبناؤها في 2011 جديد. هب أن كل ذلك صحيح، وأن السلطة هندست الأمن عبر تلك البوابة الصارمة، فهل من المعقول أن يطفئ الملك حمد كل الوهج الذي أشعله في بداية الألفية بهذه الصورة القاتمة؟

البرلمان الناجح وتموضع الدولة

قبل الإجابة عن السّؤال السابق، لا بد من تثبيت بديهية: كلما كانت البرلمانات تمتلك سلطة تشريعية حقيقية أكثر، تقدم الدور الطليعي للدول التي تتمتع بذلك النوع من البرلمانات، لأنها تعطي السياسية الداخلية والخارجية حيوية أكبر، ويتحمل النواب جزءاً من المسؤولية في سن القوانين وتوقيع الاتفاقيات وما شابه.

في حال طُبق هذا السيناريو في البحرين، فإنه قد يقيّد السلطة في جوانب معينة، لكنه سيتيح لها قوة في الرفض والقبول في شأن الاتفاقيات، فقد جرم البرلمان الكويتي مثلاً التطبيع مع "إسرائيل" في أيار/مايو من العام الماضي، ما أعطى الحكومة الكويتية فرصة كبيرة للمناورة في ظل الضغوطات التي تتلقاها من إدارة ترامب في موضوع التطبيع، فما الذي يمنع السلطة في البحرين من الاتكاء على هذه القوة، وفي الوقت نفسه تسحب حنق الشارع وترضي المعارضة؟

هل هناك أسباب أخرى غير العقيدة الأمنية التي اجترحتها منذ 2011، والتي شرحتها في مقالات سابقة، وأشرت إليها في هذا المقال؟ أعتقد أنَّ هناك سبباً آخر هو أزمة الثقة، لكن ليس بمعناها السياسي الذي يمكن معالجته بالضمانات والوساطات والاتفاقيات وحلحلة هذا الملف أو ذاك. لو كانت المشكلة أزمة ثقة سياسية فحسب، لكان الأمر هيناً، وطبيعياً أيضاً، لوجود أزمة سياسية في بلد مرّ بأحداث كتلك الّتي حدثت في 2011.

أزمة الثقة بين النخبة الحاكمة المتمثلة بعائلة آل خليفة ومكون كبير في البحرين هي نتاج المشكلة الوجودية. هذه القراءة ليست تطرفاً، وليست ظرفية. هي لا تتعلق بعقد أو عقدين من الزمن. أزمة الثقة من هذا النوع الثقيل من الأزمات هي كل ما يحكيه سلوك الحكم في البحرين على مدار التاريخ السياسي الحديث.

لذلك، يقدّم الحكم نفسه من خلال سياسته الخارجية، لا الداخلية. لذا، ترى نفوذاً سعودياً قوياً، وآخر إماراتياً، فضلاً عن النفوذ الأميركي والبريطاني، والحكم يهمل السياسة الداخلية إلا بالقدر الذي يمكنه تسيير الموارد وإبقاء الإنتاج المتوافر للثروة الطبيعية الشحيحة مستمراً، فحتى بمسطرة المصلحة المحضة للنظام الحاكم، إن السياسات التي تسيّر البلد على المستوى الداخلي لا تصبّ في مصلحته بشكل كلي.

ولو استدعينا النموذج الكويتي مرة أخرى، سنجد أن هناك تناغماً بين الحاكم والمحكوم، على الرغم من المشاكل السياسية التي يعيشها كأي بلد يعيش أزمات، وهذا ما تفتقده السعودية والبحرين، ذلك أنّ التاريخ يلقي بثقله، وأن عقدة الفتح وسمعة السيف الأملح الذي نزل على رقاب الرافضين للغزو يصل صداه من عمق قرنين من الزمن، فنجده يهز أسوار الدولة الحديثة التي من المفترض أنها تُشرك أبناءها في صناعة القرار، ولو في مستويات الصناعة السياسية المتدنية، ولكن حتى بهذا المقدار لا توجد إرادة حقيقية.

النزوة الموقتة للديمقراطية لا تصنع وطناً

قد يأتي من يحاول أن يدبج الواقع الصعب بالنظريات، فيقول إنّ السياسة فنّ الممكن، وأن لا ثوابت تمنع المصالحة، وإن استدعاء الماضي يكشف عن عوار في الفهم السياسي. هذا الكلام جميل ومنمّق ويتكرّر بين فترة وأخرى على ألسنة من يريدون المصالحة، وهذا حقهم في حرية الرأي، لكن الواقع يرمي بكل تلك التنظيرات في سلة الخيال والأحلام، لأنَّ من يملك القدرة على التغيير السياسي الحقيقي في البحرين هو النظام، لا المعارضة، ولا الموالاة، ولا المستقلون، ولا أي أحد آخر، وهو الذي يرفض المصالحة، ويرفض إشراك المواطنين في صناعة القرار، ويرفض أن تتقدم البحرين في المستوى التشريعي عبر فسح المجال للبرلمان للعمل النيابي الحقيقي الذي يسائل الوزراء ويقيل الحكومات ويقرّ الموازنات أو يرفضها وما إلى ذلك من مهام ترفع سمعة الوطن من جهة، وترضي المواطنين من جهة أخرى. كلّ ذلك يرفضه النظام الحاكم، فيما تطالب المعارضة به وتسعى له.

نعم، هناك نزوة مؤقتة للإصلاح تأتي مع كل حاكم جديد للبلد. هذا الديدن الذي دأبت عائلة آل خليفة فيه قد يتكرر إذا ما جاء سلمان بن حمد حاكماً بعد أبيه، لكن حتى تلك الانفتاحات السياسية المؤقتة، وإن كانت تُنفّس الحنق الشعبي قليلاً، إلا أنها ليست مصنفة في عداد البناء الذي يمكن الاعتماد عليه، والدليل على ذلك، أنه كلما جاء حاكم جديد وبدأ الناس يتفاءلون بتصاعد الحالة الديمقراطية يُهدم ذلك بعد فترة وجيزة، وترجع الأحكام العرفية، المعلنة منها وغير المعلنة، فيغدو صرح الإصلاح ركاماً بعدما توهّم بعض البحرينيين أنّه صرح يمكن أن يكون تراكمياً، ومثال على ذلك هو البرلمان الأول الذي شر

وبناءً عليه، يغدو البرلمان ضحيّة لهذا الصراع الوجودي، الذي، وإن أراد أن ينساه المواطن، يذكّره به النظام، بل تغدو معظم القطاعات في البلد ضحية لذلك الصراع المرير.