الانسحاب الأميركي من الجزيرة: هل يحل مشكلة الاقتصاد السوري؟
فرضية الانسحاب الأميركي التي تعد، في نظر دمشق، حتمية عاجلاً أم آجلاً، تقودنا إلى البحث في التداعيات الاقتصادية لفرضية الانسحاب، ومدى مساهمتها في معالجة الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد.
مع تمكّن الجيش السوري قبل نحو 8 سنوات من استعادة سيطرته على مناطق واسعة من البلاد وزحف قواته نحو المنطقة الشرقية لتحريرها من قبضة "داعش"، سارعت القوات الأميركية المنضوية تحت ما يسمى بالتحالف الدولي لمحاربة تنظيم "داعش" إلى احتلال معظم حقول النفط والغاز في تلك المنطقة، والتي كانت قبل فترة الحرب تؤمن اكتفاء ذاتياً للبلاد من المشتقات النفطية والكثير من المحاصيل الزراعية الرئيسية، كالقمح والقطن والثروة الحيوانية.
ومنذ ذلك الحين، تواجه البلاد أزمة اقتصادية خانقة تضافرت مجموعة من العوامل والأسباب على حدوثها، من بينها عدم تمكن الحكومة السورية من استثمار جميع مواردها النفطية والزراعية والتجارية، واضطرارها إلى استيراد ما تحتاجه من نفط خام وقمح بقيمة لا تقل شهرياً عن 300 مليون دولار، وهو الأمر الذي تسبب بحدوث ضغوط كبيرة على سعر الصرف، وتعثر محاولات إنعاش الإنتاج المحلي، وترتب مديونية خارجية، وحصول اختناقات ونقص في الكميات الموضوعة في الاستهلاك المحلي، والاضطرار إلى ترشيد شديد في المستوردات.
ومع أن تصريحات بعض المسؤولين الأميركيين تشير إلى استمرار بقاء القوات الأميركية في الشرق السوري رغم عدم مشروعيته، إلا أن التطورات الإقليمية الأخيرة المتعلقة بالاستهدافات التي تعرضت لها القواعد الأميركية رداً على حرب غزة وانتفاضة العشائر العربية ضد قوات "قسد" وتسارع الحديث عن قرب حدوث تقارب أو تطبيع سوري- تركي، جميعها عوامل تضغط على الوجود الأميركي في سوريا. كما أن احتمال عودة دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة في الولايات المتحدة الأميركية قد يفضي إلى حدوث انسحاب أميركي من سوريا فيما لو التزم ترامب بتنفيذ وعوده الانتخابية.
فرضية الانسحاب الأميركي التي تعد، في نظر دمشق، حتمية عاجلاً أم آجلاً، تقودنا إلى البحث في التداعيات الاقتصادية لفرضية الانسحاب، ومدى مساهمتها في معالجة الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد أو لنقل ببساطة الإجابة عن السؤال التالي: هل يمكن للانسحاب الأميركي من الجزيرة السورية أن يحل مشكلة الاقتصاد السوري؟
عوائق كثيرة
لا تقتصر أضرار الاحتلال الأميركي للجزيرة السورية على خسارة الاقتصاد السوري للموارد المتأتية من استثمار حقول النفط والغاز والقمح. عملياً، هذه الأضرار تمتد لتشمل خسارة الناتج المحلي الإجمالي على المستوى الوطني لمساهمة ثلاث محافظات رئيسية كان ناتجها المحلي يشكل قبل سنوات الحرب ما نسبته 19% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، والمقدر آنذاك بنحو 1.469 تريليون ليرة، إذ كانت محافظة الحسكة تحتل المرتبة الرابعة بين المحافظات السورية من حيث قيمة ناتجها الإجمالي المقدر في العام 2010، والبالغ نحو 138.1 مليار ليرة (ما يعادل نحو 30.6 مليار دولار بناء على سعر صرف قدره في ذلك الحين 48 ليرة للدولار الأميركي الواحد)، فيما جاءت محافظة دير الزور في المرتبة الثامنة بناتج قدره 83.1 مليار ليرة. أما الرقة، فجاءت في المرتبة الحادية عشرة بناتج قدر بنحو 57.3 مليار ليرة.
إلى جانب السيطرة على الثروتين الشهيرتين (النفطية والزراعية)، فإن وجود القوات الأميركية في منطقتي الجزيرة والتنف عرقل جهود الحكومة السورية لاستثمار موقعها الجغرافي في تنشيط تجارة الترانزيت الإقليمية والدولية، واستثمار مشاريع النقل النفطي والغازي والكهربائي بين بعض الدول العربية وتركيا وأوروبا.
لذلك، على أهمية خطوة الانسحاب الأميركي من سوريا وضرورتها، إلا أنَّها لن تكون كافية على المدى الزمني القصير لوقف التدهور الحاصل في الأوضاع الاقتصادية لعدة أسباب يمكن تلخيصها بالنقاط التالية:
- الأضرار الهائلة التي تسببت بها الحرب للبنى التحتية والمرافق الخدمية والبيئية في المنطقة الشرقية، وهي أضرار تحتاج إلى وقت ليس بالقصير في حال توفرت الإمكانيات المادية والبشرية اللازمة لمعالجتها وإصلاحها بما يتيح إنعاش الأنشطة الاقتصادية والإنتاجية في المنطقة الشرقية.
- تعرض الآبار النفطية للتخريب والاستثمار الجائر من قبل الفصائل المسلحة التي تعاقبت على سرقة ونهب الحقول النفطية ومنشآتها، بدءاً من "الجيش الحر" مروراً بـ"جبهة النصرة" وتنظيم "داعش"، وانتهاء بقوات "قسد" المدعومة أميركياً. وبالتالي، فإن عملية إعادة تأهيل الآبار والحقول النفطية ومنشآتها تحتاج إلى مبالغ كبيرة وإمكانيات فنية وتقنية عالية المستوى، فضلاً عن الحاجة إلى إعادة تقييم لوضع الاحتياطي النفطي والغاز في تلك الحقول.
- التلوث الذي لحق بالأراضي الزراعية من جراء انتشار ما يزيد على 30 ألف مصفاة نفطية بدائية في تلك المنطقة يشكل عائقاً كبيراً أمام استعادة المنطقة إنتاجها الزراعي الكبير، وخصوصاً في ظل التغييرات المناخية وتداعياتها الخطيرة على الهاطل المطري وتوزعه والمياه الجوفية وما إلى ذلك.
- استمرار وجود خلايا نشطة لتنظيم "داعش" في منطقة البادية المتحكّمة في الحدود السورية مع العراق والأردن من شأنه عرقلة أي مشاريع إقليمية للربط السككي والبري والنفطي. وللعلم، فإن التنظيم المتهمة واشنطن بدعمه بشكل مباشر أو غير مباشر لم يتوانَ لحظة واحدة عند سيطرته على مساحة واسعة من المناطق العراقية المحاذية لسوريا عن اقتلاع الخطوط الحديدية التي أُنشئت في إطار مشروع الربط السككي بين كل من إيران والعراق وسوريا.
- العقوبات الاقتصادية الغربية الواسعة المفروضة على سوريا، والتي تمنع أي تعاون اقتصادي عربي أو إقليمي مع سوريا في مجال إعادة الإعمار والطاقة وفقاً لما نص عليه صراحة قانون "قيصر"، الأمر الذي سيؤخر دون شك جهود إصلاح منشآت قطاع النفط والغاز واستثمارها وفقاً لاحتياجات البلاد وطاقتها الإنتاجية. والمثال على ذلك عدم تمكن الحكومة من القيام بأعمال استكشاف وتنقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليمية وفي الكثير من المناطق الداخلية المأمولة.
- هجرة عدد كبير من الكوادر البشرية الشابة والأسر من أبناء المنطقة باتجاه المحافظات الأخرى أو إلى الخارج للعمل في بعض الدول العربية أو للهجرة إلى الدول الغربية والأميركية. مثل هذا التحدي الديمغرافي سيكون مؤثراً جداً في عملية استثمار الأراضي الزراعية، وتشغيل المرافق الخدمية، وتوفير اليد العاملة في المشروعات الكبرى التي لا بد من أن تشهدها المنطقة عاجلاً أم آجلاً.
- مستقبل العلاقة مع "قسد" والتوصل إلى تفاهمات سياسية تحفظ للبلاد وحدتها وسيادتها وتلبي احتياجات وتطلعات المناطق والمحليات بمزيد من الصلاحيات في المجال التنموي، إذ إن انسحاب القوات الأميركية بشكل مفاجئ أو على مراحل لا يعني أن المشكلة القائمة في المناطق التي تعد خارج السيطرة في الجزيرة السورية حلت، فهناك ضرورة لفتح حوار مع المكون الاجتماعي بغية إشراكه في العملية التنموية وبناء حالة من السلام المحلي، فالمنطقة تعيش بفعل ممارسات وحدات "قسد" على حافة انفجار اجتماعي. وقد دلت انتفاضة العشائر والقبائل العربية على ذلك مراراً.
إعادة بناء لا إعمار
كل ذلك يقودنا إلى استنتاج فحواه أن إعادة دمج اقتصاد المناطق التي تعد خارج السيطرة حالياً في الجزيرة السورية بالاقتصاد السوري تتطلب في مرحلة ما بعد الانسحاب الأميركي العمل على ما يلي:
-رفع العقوبات الغربية عن سوريا بما يسمح لها بإطلاق عملية إعادة بناء وتنمية في المنطقة الشرقية. ولأن ذلك يبدو صعباً في الوقت الراهن في ضوء المواقف الأميركية، فإن الحل البديل يكمن في لجوء الشركات النفطية المستثمرة لحقول النفط إلى القانون الدولي لمقاضاة الولايات المتحدة وإلزامها برفع أي عقوبات تستهدفها في حال عودتها لاستثمار الحقول السورية وفق العقود الموقعة أصولاً منذ سنوات ما قبل الحرب.
- إطلاق حوارات مجتمعية تستهدف بناء حالة من التماسك والاستقرار المجتمعي، وهي ضرورية جداً لإنجاح أي مشروع وطني تنموي خاص بالمنطقة الشرقية، التي شهدت منذ العام 2011 انتشاراً لفكر متطرف وعنصري حفر عميقاً في حياة سكان المنطقة ومستقبلهم.
- وضع استراتيجية تنموية للمنطقة الشرقية تمتد على 5 سنوات، وتستهدف في المرحلة الأولى تقييم الأضرار والتحولات الاقتصادية والاجتماعية التي طرأت على المنطقة بفعل الحرب وما قبلها، ومن ثم العمل على إعادة بناء المنشآت والمرافق والبنى التحتية الأساسية، ومساعدة السكان على إعادة استثمار المساحات الزراعية الواسعة والقيام بمشروعات اقتصادية صغيرة ومتوسطة داعمة للاقتصاد المحلي، ومن ثم تشجيع الأسر النازحة داخلياً وخارجياً على العودة إلى مناطقها وقراها.