في ختام 2021.."إسرائيل" تبحث عن استراتيجية
تواجه "إسرائيل" تهديدات من الخارج والداخل تلزمها صياغة استراتيجية منظَّمة تعالج الخلل الجوهري في صناعة قرارات الأمن القومي.
عقد "معهد السياسات والاستراتيجيا الإسرائيلي"، و جامعة "رايخمن" مؤتمراً أمنياً سياسياً منذ أيام، تحت عنوان "ما هي الاستراتيجية المطلوبة لإسرائيل؟"، شاركت فيه مجموعة واسعة من صُنّاع القرار، بالإضافة إلى مفكّرين وضبّاط حاليين واحتياط من جيش الاحتلال الإسرائيلي، وسياسيين ودبلوماسيين من خارج "إسرائيل". وكان الأمر المشترَك في مداخلات كل المشتركين في المؤتمر ونقاشاتهم أن "إسرائيل" تواجه تهديدات من الخارج والداخل تلزمها صياغة استراتيجية منظَّمة، تمكّنها من تقديم حلول تلائم الاحتياجات القومية الاستراتيجية الإسرائيلية في المدى البعيد. وفي هذا الإطار، تزداد الحاجة إلى اتخاذ قرارات حاسمة بشأن عدة قضايا استراتيجية، وخصوصاً أن السياسات الإسرائيلية المتَّخَذة حالياً تجاه تلك القضايا، تزيد في التحدي الناتج من تلك القضايا فعلياً، وفي مقدِّمتها المشروع النووي الإيراني والقضية الفلسطينية.
تكشف توصيات المؤتمر الستار، بصورة غير مباشرة، عن خلل جوهري في صناعة قرارات الأمن القومي للاحتلال الإسرائيلي، وخصوصاً مع تصاعد الحديث الإسرائيلي عن احتمال توجيه ضربة عسكرية إلى المشروع النووي الإيراني. لكنّ الأمر المفاجئ أنه، على الرغم من أن قضية المشروع النووي الإيراني ليست قضية طارئة، بل تتفاعل منذ ما يقارب عشر سنوات داخل أروقة حكومة الاحتلال و"جيشه"، فإن من الواضح أنه لا توجد خُطط إسرائيلية معَدّة ومتفَق عليها مسبَّقاً. فما هو السبب في ذلك، يا تُرى؟
يمتاز الأمن القومي للاحتلال الإسرائيلي بخصوصية عالية، ويمتدّ إلى مجالات متعدّدة، من دون اقتصاره على البُعد العسكري. وعملية صنع القرار الأمني في "إسرائيل" متداخلة ومتشابكة، بين المكلَّفين الرسميين والمؤثِّرين غير الرسميين. لذا، لا تُصنع قرارات الأمن القومي بمعزل عن البيئة المحيطة بصناعة تلك القرارات، على الرَّغم من أنه يمكن تحديد مراحل صناعة قرار الأمن القومي للاحتلال الإسرائيلي من الناحية النظرية الدستورية، والتي تتكوّن بصورة أساسية من ثلاث مراحل رئيسة:
1. تصميم الخطوط العريضة لسياسة الأمن القومي.
2. مرحلة الموافقة الرسمية على هذه السياسة.
3. مرحلة تنفيذ السياسة وردود الفعل: التغذية الراجعة.
إلا أنه لا يكفي، في الحقيقة، في ضوء تلك المراحل، تحديد كيفية صناعة قرارات الأمن القومي للاحتلال الإسرائيلي بصورة فعلية، ومعرفة آلياتها على نحو تفصيلي، بسبب وجود مساحة من التداخلات الواسعة النطاق في صناعة قرار الأمن القومي الإسرائيلي، بحيث إن "الموافقة الرسمية" تتم في المرحلة الثانية داخل إطار المؤسسات الرسمية، مثل الحكومة أو البرلمان (الكنيست في الحالة الإسرائيلية). لذا، من السهل التعرف، بصورة مؤكدة، إلى مجموعة صُنّاع القرار المشاركين في مرحلة الموافقة والإقرار الرسمي لتلك القرارات، لكن الأمر مغاير بالنسبة إلى مجموعة "صُنّاع السياسة" بقيادة رئيس الوزراء في مرحلة "تصميم الخطوط العريضة"، إذ إن مَنْ يصمم قرارات الأمن القومي في هذه المرحلة، ليس من الضروري أن ينتمي إلى مجموعة الإقرار على تلك القرارات (الموافقة الرسمية).
أضف إلى ذلك أنهم بالتأكيد لا يتّبعون بالضرورة قواعد اللعبة نفسها، على الرغم من أن دورهم أكثر أهمية، كونهم يصوغون القرارات التي يتم تقديمها في النهاية إلى المؤسسات الرسمية للموافقة.
على الرغم من إمكان التحديد الواضح للمناصب الحكومية التي تؤثّر في صناعة الأمن القومي للاحتلال الإسرائيلي، والتي يقف في مقدمتها رئيس الوزراء، فإن ذلك لا ينفي وجود تعقيدات كبيرة في الصلاحيات والعلاقات التنسيقية بينها، الأمر الذي يُحدث حالة من عدم القدرة على التخطيط الاستراتيجي للحكومة في مجالات الأمن القومي.
في ضوء ما سبق، أوضح بحث أجراه مركز البحوث الخاص بكنيست الاحتلال الإسرائيلي أهم اتجاهات القصور في آليات اتخاذ قرارات الأمن القومي للاحتلال الإسرائيلي:
أ. اتخاذ القرار كردّ فعل: في السنوات الأخيرة، بنى صُنّاع القرار الإسرائيليون مقاربة ردّ الفعل، والتي تتمثل بـ"الجلوس والانتظار لترى كيف تتطور الأمور"، بمعنى فقدان المبادرة بالفعل.
ب. إدارة الأزمات والارتجال: الارتجال وإدارة الأزمات كانا نتيجة حتمية لبيئة الأمن القومي للاحتلال الإسرائيلي، وخصوصاً في السنوات الأولى بعد إعلان الكيان. ومع ذلك، فإنها لا تزال، حتى يومنا هذا، سمة رئيسةً في عملية صنع القرار الإسرائيلي. ففي كثير من المجالات، فإن القاعدة المقبولة هي اتخاذ القرارات من خلال "التجربة والخطأ"، و"إطفاء الحرائق".
تضاءلت في السنوات الأخيرة قدرة "إسرائيل" على الارتجال، لأن القضايا أصبحت معقَّدة للغاية، وتتطلَّب تخطيطاً مطولاً ومنهجياً، وبالنظر إلى حقيقة مفادها أن التكلفة المحتملة للخطأ ازدادت وأصبحت غير محتملة.
ج. تجنُّب العمل الجماعي: تتميز عملية صنع القرار في "إسرائيل" بابتعاد رؤساء الوزراء عن العمل الجماعي، بحيث أظهروا تفضيلاً منهجياً للامتناع عن استخدام العمل الجماعي المنفّذ في بيروقراطية أنظمة الأمن القومي، نتيجة عدة أسباب، بينها الخوف من فقدان حريتهم في العمل.
د. عدم وجود فريق عمل مختصّ مساند قبل اتخاذ القرارات: تتفاقم القيود المفروضة على الحكومة واللجنة الوزارية للشؤون الأمنية بسبب عدم وجود هيئة وظيفية فاعلة، بحيث يتم عادة تقديم مقترحات السياسة من جانب الوزارة المختصة بالموضوع مثار النقاش، والتي تقدم بديلاً واحداً فقط، يمكن للحكومة قبوله أو رفضه، من دون هيئة مركزية إلى جانبها. وبذلك، لا تتمتع الحكومة بالقدرة المستقلة على تقييم المعلومات والبدائل المقدَّمة لها.
هـ. عدم وجود منتدى فعال لصنع السياسات: أدت صعوبة تشكيل منتديات صنع القرار من جانب الحكومة واللجنة الوزارية للشؤون الأمنية، إلى دفع رؤساء الوزراء إلى صياغة السياسات بأنفسهم في منتديات خاصة بهم، بمشاركة مستشاريهم الأوفياء لهم.
و. عملية صنع القرار الشخصي: السمة الرئيسة لعملية صنع القرار في "إسرائيل"، هي طبيعتها غير الدستورية وغير الرسمية.
ز. التنسيق غير الكافي: هناك مشكلة نقص التنسيق عندما يتعلّق الأمر بصياغة السياسات وتنفيذها، والأعمال المستمرة المشتركة بين الوزارات، نظراً إلى أن القضايا أصبحت أكثر تعقيداً على مر السنين، وأصبحت البيروقراطية أكبر وأكثر تعقيداً، فزادت الحاجة إلى التنسيق بين الوزارات. لكن آلية التنسيق بين الوزارات غير فعالة، من الناحية العملية.
ح. أهمية المؤسسة الأمنية واعتباراتها في عملية اتخاذ القرار: تُعتبر المؤسسة الأمنية، وخصوصاً جيش الاحتلال الإسرائيلي، اللاعبَ الأكثر تأثيراً في عملية صنع القرار القومي، مع القدرات الأكثر تطورا في تقييم السياسات وصناعتها وتنفيذها.
لكنّ الأمر الأكثر خطورة في صناعة قرارات الأمن القومي للاحتلال الإسرائيلي، هو الانشغال الحصري تقريباً، لصُنّاع القرار في "إسرائيل"، بقضايا الحاضر، وتركيز اهتمامهم على البحث عن تطوير آلية صنع قرار من أجل إيجاد الحلول السريعة المخصَّصة للمشاكل الفورية، الأمر الذي يُمثّل رؤية قصيرة المدى في صناعة قرارات الأمن القومي للاحتلال الإسرائيلي، في الوقت التي تغيب الخطط الاستراتيجية الطويلة الأمد، الأمر الذي اتضح من حالة شبه الإجماع على أن "إسرائيل" تدخل عام 2022م من دون امتلاكها خطة استراتيجية لمجابهة المشروع النووي الإيراني، الأمر الذي عبّر عنه المحلل العسكري الإسرائيلي يوآف ليمور في قوله إن "إسرائيل" تعود إلى استعدادات الهجوم على إيران بعد إهمال ذلك طويلاً. لكنّ هذا الأمر سيستغرق منها بين ثلاث وخمس سنوات.