استهداف سليماني والمهندس مثالاً.. الاغتيال إرهاب من نوع آخر
من الطّبيعي أنَّ واشنطن و"تل أبيب" ومن يقف معهما ويساندهما كانوا يسعون، وما زالوا، لضمان مصالحهم في المنطقة وحماية أدواتهم، من خلال إضعاف أعدائهم وخصومهم.
في مراجعة سريعة وإجماليّة لفترة زمنية تمتدّ إلى 3 عقود، من اليسير جداً تسجيل عددٍ لا يُستهان به من عمليات الاغتيال التي نفَّذتها أجهزة المخابرات الأميركية والإسرائيلية، وربما بالتعاون والتنسيق مع أجهزة مخابرات دولية وإقليمية، ضد شخصيات سياسية ودينية وعلمية كبيرة ومهمّة حملت راية المواجهة والتصدّي للمخطّطات والمشاريع والأجندات الخارجيّة بأشكال وصور ومظاهر وأساليب مختلفة.
ولعلَّ أبرز وأهمّ الرموز التي تمَّ استهدافها وتصفيتها، الأمين العام السابق لحزب الله اللبناني الشهيد السيد عباس الموسوي في 16 شباط/فبراير 1992، والأمين العام لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) الشهيد أحمد ياسين في 22 آذار/مارس 2004، والرئيس الأسبق للمجلس الأعلى الإسلامي العراقي الشهيد آية الله السيد محمد باقر الحكيم في 29 آب/أغسطس 2003، والقيادي في حزب الله الشهيد عماد مغنية في 12 شباط/فبراير 2008، وكذلك نجله جهاد في 18 كانون الثاني/يناير 2015، والعالم النووي الإيراني محسن فخري زادة في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2020، وقائد "قوة القدس" الإيراني الشهيد قاسم سليماني ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي الشهيد أبو مهدي المهندس في 3 كانون الثاني/يناير 2020.
من الطّبيعي أنَّ واشنطن و"تل أبيب" ومن يقف معهما ويساندهما كانوا يسعون، وما زالوا، لضمان مصالحهم في المنطقة وحماية أدواتهم، من خلال إضعاف أعدائهم وخصومهم، والقضاء عليهم بشكل تام في حال تمكّنوا من ذلك. ولا شكَّ في أنهم استخدموا وسائل وأساليب مختلفة لتحقيق هذه الأهداف، منها الحرب الناعمة بشتى أدواتها، الإعلامية والسياسية والثقافية والدينية والاجتماعية، والحرب العسكرية المباشرة في بعض الأحيان، وصناعة الجماعات والتنظيمات الإرهابية المسلحة وتمكينها هنا وهناك، كما هو الحال في أفغانستان والعراق وسوريا ولبنان واليمن وباكستان ودول أخرى في أفريقيا وآسيا، وعمليات الاغتيال النوعية ضد الرموز والقيادات الكبيرة والمؤثرة في مجتمعاتها، ناهيك بالاختراقات السياسية والأمنية التي تقوم بها في الدول ذات الأنظمة السياسية القلقة والحكومات الضعيفة غير المستقرة.
وفي كلّ مرة، عندما تقدم واشنطن على اغتيال شخصية ما، فإنها تسوّق جملة ذرائع ومبرّرات واهية لفعلتها، تحت عناوين مكافحة الإرهاب، وصيانة الأمن والسلم الدوليين، والمحافظة على الأمن القومي الأميركي، وهو ما تحدثت عنه كثيراً، سواء عبر منابرها السياسية أو وسائل إعلامها وفضاءاتها الفكرية والثقافية، بعدما أقدمت على قتل سليماني والمهندس بضربة جوية قرب مطار بغداد الدولي قبل عامين.
النقطة الجوهرية هنا تكمن في أنَّ الولايات المتحدة الأميركية التي تدّعي أنها تحارب الإرهاب الداعشي التكفيري، أقدمت على استهداف اثنين من أبرز القادة الذين تصدّوا لتنظيم "داعش"، ليس في العراق فحسب، إنما في ميادين ومواقع ودول أخرى أيضاً، وكان لهم دور ريادي كبير في إلحاق الهزيمة به.
هذا التناقض الفاضح بين أقوال أميركا وادعاءاتها وشعاراتها من جانب، وأفعالها من جانب آخر، يكشف مرة أخرى بما لا يقبل الشكّ ولا يحتمل اللبس والغموض سياساتها الانتهازية المنافقة وبراغماتيتها الضيّقة. وفي واقع الأمر، لا يعد ذلك أمراً جديداً أو مفاجئاً لمن يعرف حقيقة السياسات والمواقف الأميركية على مرّ التاريخ ويفهمها ويدركها، ولا سيما منذ تحولها إلى قوة دولية كبرى بعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945) على أنقاض بريطانيا العظمى وفرنسا.
وتتمثل النقطة الجوهرية الأخرى بأن الولايات المتحدة الأميركية انتهكت كلّ الأعراف والقوانين والمواثيق الدولية، من خلال استهدافها سليماني والمهندس على أرض العراق، فهي لم تحترم السيادة الوطنية العراقية، ولم تأخذ بعين الاعتبار أنَّ أحد الأشخاص الذين استهدفتهم - قاسم سليماني - كان ضيفاً رسمياً، وجاء بدعوة من الحكومة العراقية، وفي مهمة حساسة للغاية، وأن الشخص الآخر - أبو مهدي المهندس - كان مسؤولاً رفيع المستوى في مؤسسة أمنية حكومية تعمل ضمن سياقات الدولة العراقية، وتحت إمرة القائد العام للقوات المسلّحة وإشرافه.
لا شكّ في أنّ صنّاع القرار في واشنطن وفرق مستشاريهم وخبرائهم كانوا يقدّرون ويأملون أنّ اغتيال المهندس وسليماني سيضعف محور - أو جبهة المقاومة - وبالتالي سيقلّل ويقلّص حجم المخاطر التي يشكّلها على مصالح الولايات المتحدة والكيان الصهيوني وحلفائهما وأصدقائهما وأتباعهما، بيد أنَّ الوقائع والمعطيات اللاحقة أثبتت أنَّ حسابات واشنطن كانت خاطئة إلى حد كبير، فبدلاً من أن تضعف جبهة المقاومة، اكتسبت قوة إضافية باستشهاد هذين القائدين، ترجمتها جملة مظاهر وفعاليات وخطوات أربكت الحسابات الأميركية، وجعلت ساسة واشنطن وقادتها العسكريين يتخبّطون كثيراً في مواقفهم.
وأكثر من ذلك، راح كلّ طرف يلقي باللوم والتقصير على الآخر. ولعلّ الحملات الانتخابية بين الرئيس السابق دونالد ترامب والحالي جو بايدن أظهرت على مدى بضعة شهور جانباً من ذلك الارتباك والتخبّط وغياب الرؤية الواضحة والسليمة لما يراد فعله وتحقيقه.
ويذهب بعض المحلّلين والكتّاب الغربيين إلى أنَّ عملية اغتيال سليماني والمهندس كانت مغامرة ومقامرة من الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، من دون أن يدرك جيداً، ومعه فريق مساعديه ومستشاريه، العواقب السياسية والأمنية والاقتصادية السيئة التي يمكن أن تخلّفها خطوة متهورة من هذا القبيل، وهو ما جعله في وقت لاحق، وبعد أن تبيّنت له صورة ما بعد الحدث، يسعى جاهداً إلى احتواء الموقف، عبر استجداء التهدئة من الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ولا سيما بعد الضربات الصاروخية القاصمة التي وجهتها إلى قاعدة "عين الأسد" في غرب محافظة الأنبار، بعد 5 أيام على عملية الاغتيال، وما تسبّبت به من خسائر بشرية ومادية فادحة بالقوات الأميركية المتواجدة في تلك القاعدة.
ولا شك في أنَّ خطأ الحسابات الأميركية – الترامبية ارتبط بشكل أو بآخر بالوضع الهشّ والمرتبك والقلق للجبهة الداخلية الأميركية في عهد ترامب، أي أن عملية اغتيال المهندس وسليماني كانت أشبه بعملية هروب إلى الأمام للتخلص من ضغوطات الجبهة الداخلية، واستعادة بعض الشعبية التي فقدها ترامب، عندما كان على أعتاب معركة رئاسية حادة وساخنة مع منافسه الديمقراطي القوي جو بايدن.
وكما قالت بعض الأوساط والمحافل السياسية الأميركية وغير الأميركية، من بين أسباب ودوافع إقدام الرئيس السابق ترامب على إصدار قرار تصفية سليماني والمهندس، هو الهروب إلى الأمام من مشاكله الداخلية، وأبرزها قضية عزله التي كان لها أثر كبير في تراجع حظوظه في الحصول على ولاية رئاسية ثانية.
إنَّ ما اتّفق عليه الكثيرون، حتى في داخل الولايات المتحدة الأميركية، وبعد عملية الاغتيال مباشرة، هو أنّ الأمور لن تكون على ما يرام، ولن تسير بالاتجاه الصحيح، وأنَّ ما حصل فجر الجمعة 3 كانون الثاني/يناير 2020، قرب مطار بغداد، لن يفضي إلى التهدئة والهدوء وتجنّب فرص وخيارات التأزيم والتصعيد والحرب.
المعارضون لأميركا والمعادون لها، وكذلك المؤيدون والداعمون لها، عبّروا عن قلق عميق وتوجّس كبير من تبعات وتداعيات ما حصل، فما جرى، في نظرهم، كان يعني أن الولايات المتحدة الأميركية، بزعامة دونالد ترامب، قررت الذهاب بعيداً في خلط الأوراق ودفع الأمور إلى حافة الهاوية، وبالتالي إمكانية إقحام المنطقة في أتون حرب جديدة لا يمكن التنبؤ بمدياتها ونتائجها الكارثية.
ساسة كبار في الولايات المتحدة أكّدوا هذه الحقيقة، من بينهم أعضاء في الكونغرس الأميركي من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، فضلاً عن مسؤولين كبار سابقين انتقدوا ما أقدم عليه ترامب وحذّروا من تبعاته. وفي خارج أميركا، وبعيداً عن العراق وإيران، فإنّ الانتقادات وردود الأفعال الرافضة والمنددة والمستنكرة أخذت حيزاً واسعاً في المحافل السياسية ووسائل الإعلام وأوساط الرأي العام، وكان كل طرف ينظر إلى الأمر من زاوية معينة.
لا شك في أنَّ ما ترتب حتى الآن على اغتيال سليماني والمهندس يفترض أن تتحمّل الولايات المتحدة الأميركية مسؤولية تبعاته وتداعياته في الدرجة الأساس. ولعلّ معالم الارتباك والتخبّط الأميركي وملامحهما برزت واضحة جلية إلى حد كبير بعد وقت قصير من الحادث، على وقع ردود الأفعال الواسعة، وارتباطاً بالخطوات التي شرعت كل من بغداد وطهران في اتخاذها.
واليوم، إنّ المعطيات والحقائق والوقائع على الأرض تؤكد أن الولايات المتحدة الأميركية خسرت كثيراً باغتيالها سليماني والمهندس. من جانب، إنّ أمنها القومي لم يعد مصوناً أكثر من السابق، بل على العكس تماماً، وخصوصاً أن حليفتها "إسرائيل" أصبحت عرضة للمزيد من التهديد والخطر، رغم إبرامها عدداً من اتفاقيات التطبيع مع بعض الأنظمة والحكومات العربية، ومشاكلها وأزماتها الداخلية تفاقمت، وخلافاتها واختلافاتها مع شركائها الدوليين اتسعت إلى حد كبير، ووجودها العسكري في دول مثل العراق وأفغانستان بات يمثل عبئاً هائلاً عليها، مع تزايد المطالب والدعوات الشعبية والسياسية إلى طيّ صفحة ذلك الوجود، ناهيك بالتعقيد الكبير في الملفات الإقليمية التي كانت واشنطن تأمل حسهما بطريقة تعزز نفوذها وهيمنتها وموقع أصدقائها وأتباعها ومكانتهم، كما هو الحال بالنسبة إلى الملف السوري واليمني واللبناني.
وأكثر من ذلك، وجدت نفسها مرغمة على البحث عن السبل الكفيلة بالعودة إلى الاتفاق النووي المبرم بين إيران ومجموعة القوى الدولية الكبرى في العام 2015، بعدما خرج منه ترامب بقرار متسرّع ومتهوّر غير مدروس ومحسوب بدقة، مع التأكيد أنَّ طهران تؤكّد باستمرار أنها لم تقم إلى الآن بالردّ الكافي والمطلوب بمختلف الوسائل والأساليب والأدوات المتاحة على اغتيال الجنرال سليماني، مثلما لا تتوقّف المطالب في بغداد بالانتقام لدم المهندس.
قد يبدو أنَّ المشهد العام ما زال مرتبكاً وضبابياً، وسيبقى كذلك إلى أمد غير معلوم، بيد أن تداعيات عملية الاغتيال وتبعاتها تؤشر على أن كل المسارات ليست في مصلحة واشنطن و"تل أبيب" أبداً، وأن صورة الحدث بكل أبعادها لم تكتمل حتى الآن، رغم مرور عامين عليه، ولا يبدو أنها ستكتمل خلال وقت قريب.