استدارة بايدن.. الظروف لصالح ابن سلمان
وعود وشعارات أزاحتها مؤخراً البراغماتية الأميركية جانباً، لصالح السياسة.
تخطو إدارة بايدن خطوة إلى الخلف. تتراجع وتعيد تقييم علاقتها مع المملكة العربية السعودية التي وعد سيّد البيت الأبيض بأن يجعلها دولة منبوذة دولياً، وأن تدفع الثمن غالياً لحربها على اليمن، ولقتلها الصحافيّ جمال خاشقجي. وعود وشعارات أزاحتها مؤخراً البراغماتية الأميركية جانباً، لصالح السياسة، بعد العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، إذ من المتوقع، كما نقلت وسائل إعلام أميركية، أن يلتقي الرئيس جو بايدن بوليّ العهد السعودي محمد بن سلمان، الشهر المقبل، في خطوة أشبه بالاستدارة مجدّداً نحو الرياض، بعد توتّر سيطر على العلاقة بين الطرفين.
أكثر من عام ونصف، تجنّب خلالها بايدن إجراء أيّ اتصال أو لقاء يجمعه بالأمير الشاب والحاكم الفعلي للسعودية، بحجة أن الرئيس لا يتحدث إلا مع نظرائه، فيما قابل الأمير محمد بن سلمان التجاهل الأميركي بتجاهل آخر في علاقة خلت من الكيمياء على ما يبدو؛ فالسعودية التي ابتلعت الإهانات الواحدة تلو الأخرى من إدارة ترامب، مقابل الانحياز صوبها في الصراع الإقليمي، سواء بوقف الاتفاق النووي مع إيران أم بدعم الحرب على اليمن أم بتجاهل قضية خاشقجي، لا تبدو قادرة على ابتلاع سياسة الديمقراطيين السائرين على نهج أوباما، بالمراهنة بأمنهم وتجاهل مخاوفهم٬ ما أدّى إلى انهيار متسارع في الثقة لصالح التوجّس والقلق من خطوات أميركية غير متوقّعة، على غرار ما حدث من انسحاب مفاجئ من أفغانستان، أو ربما عبر تواطؤ يفضي إلى إسقاط الأنظمة من الداخل، فلا يعود الحال كما كان، أو تركهم لخصومهم في الإقليم لابتلاعهم، من دون دعامة أمنية، توجّسٌ لا يخفيه السعوديون سراً وعلانية.
تدهور غير مسبوق بين الحليفين التاريخيين
وبالعودة إلى الوراء، هذه ليست المرة الأولى التي تتأزّم فيها العلاقة بين الطرفين على مدى أكثر من ستين عاماً. ففي عام 1973 قرّر الملك فيصل بن عبد العزيز الانحياز إلى الموقف العربي، ووقف تصدير النفط إلى الدول الداعمة لـ"إسرائيل"، ومنها الولايات المتحدة الأميركية التي واجهت على إثر ذلك أزمة كبرى، نتيجة لارتفاع أسعار النفط، بادرت حينها الأخيرة بخطوات لترطيب الأجواء واستئناف العلاقة مع الرياض، حيث توّجت تلك الجهود بتوقيع عدد من صفقات الأسلحة وسلّة من الاتفاقات وتعاون كبير لاحق في مواجهة الاتحاد السوفياتي أمنياً وعسكرياً وسياسياً، إبّانَ الحربِ الباردة. دفءٌ تحوّل إلى غضب أميركي جارف إثر الهجوم الإرهابي على بُرجَي مركز التجارة العالميّ، أو ما عُرف بأحداث الـ 11 مِن أيلول/ سبتمبر، حيث شنّت الولايات المتحدة حينها هجوماً عنيفاً على أفراد في الأسرة الحاكمة، وطالبت السعودية بفك الارتباط العضوي بين المؤسسة السياسية والمؤسسة الدينية الوهابية٬ فضلاً عنِ احتجاز عشرات السعوديين من دون محاكم. كما يحضر في الذاكرة تقرير لوران مورافيتس الذي اعتبر أن السعودية دولة عدوّة، وطالب بتقسيمها، على أن تكون المنطقة الشرقية الغنية بالنفط تحت الحماية الأميركية. أمر دفع بالسعوديين إلى المبادرة من جانبهم إلى احتواء الفوران الأميركي وامتصاصه بسلسلة من الإجراءات والتطمينات والتعاون الأمني لمواجهة الإرهاب وكبح جماح الجماعات السلفية.
وعلى الرغم من هذه الأزمات التي عصفت بالعلاقة بين الطرفين، بقيت هذه العلاقة متجذّرة، صلبة ومستمرة، على قاعدة المصالح المشتركة. غير أنه في السنواتِ العَشرِ الأخيرة، شهدت العلاقة تدهوراً غير مسبوق، آخذ في التوسّع وأقرب للانهيار، وذلك منذ فترة حكم الرئيس باراك أوباما الذي تسبّب في أرق مزمن للخليجيين، بعد توقيعه الاتفاق النوويّ مع إيران، وتدشينه السياسة الأميركية الجديدة بالتوجه شرقاً لمواجهة الصين، والانسحاب التدريجيّ من الشرق الأوسط، بما في ذلك الخليج، في تخَلٍ واضح عن القاعدة الذهبية التي حكمت العلاقة بين الطرفين، "الأمن مقابل النفط". وبينما تنفّس الخليجيون الصعداء إبّان حكم ترامب، إلا أنَّ عهدَ الرئيسِ بايدن أرجعهم إلى مربّع أوباما ونهجه.
هل تنهار العلاقة أم يتداركها الأميركيون؟
في السياسية لا عداوة دائمة ولا صداقة دائمة، بل مصالح دائمة، كما يقول رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرتشل.
فعلى الرغم من محاولة بايدن، منذ وصوله إلى رئاسة البيت الأبيض، تنفيذ وعوده الانتخابية بالضغط على السعودية عبر إنهاء الدعم العسكري الأميركي لها في حربها على اليمن، ورفع حركة أنصار الله من قائمة الإرهاب، والخطوة الأسوأ بالنسبة إلى الخليجيين، وهي تحريك المياه الراكدة سعياً لإعادة إحياء الاتفاق النووي مع إيران، فإن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا قلبت الموازين من جديد، لتضع الخليج الغني بالنفط في قلب معادلة الصراع، معادلة عنوانها العريض الحاجة العالمية إلى النفط. وممّا لا شك فيه أن السعودية، صاحبة ثاني أكبر احتياطيِّ نفط في العالم، مركز ثقل مهم فيه.
حاجة طلبت على إثرها إدارة بايدن من السعودية والإمارات زيادة إنتاج النفط، فيما قوبل الطلب الأميركي بالرفض مرات عديدة، بل عمدت الدولتان الخليجيتان إلى توطيد العلاقة مع روسيا والحفاظ على موقف متوازن معها، في رسالة قرأ فيها البعض تعبيراً عن استياء واضح من السياسة الأميركية.
مرحلياً، قد تجد واشنطن نفسها مضطرة إلى النزول من فوق الشجرة، والتعاطي بواقعية في علاقتها مع الخليج، وتحديداً السعودية، في ظل تصاعد المواجهة الغربية الروسية وتبعاتها على أسواق الطاقة العالمية، وهو الأمر نفسه الذي دفع الديمقراطيين إلى ممارسة الضغوط على إدارة بايدن من أجل إعادة ترتيب العلاقة مع الرياض، خوفاً من انعكاسات ارتفاع أسعار النفط على جيوب الأميركيين، ما قد يؤدّي الى خسارتهم في الانتخابات التجديدية المقبلة.
في النتيجة، صحيفة وول ستريت جورنال كشفت في تقرير لها عن زيارة لمدير الاستخبارات الأميركية وليام بيرنز للرياض، مشيرة إلى أن المحادثات جرت بشكل جيّد وإيجابيّ، أكد بعدها وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن التزام بلاده الدائم بتعزيز دفاعات السعودية، وذلك خلال لقاء جمع نائبته ويندي شيرمان مع نائب وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان آل سعود، كما نقل موقع "أكسيوس" عن مسؤولين أميركيين أن اثنين من كبار مستشاري الرئيس جو بايدن وصلا إلى السعودية في زيارة سرية لإجراء محادثات بشأن اتفاق محتمل لزيادة إنتاج النفط، وبحث العلاقات الثنائية بين واشنطن والرياض، كل ذلك يبدو تمهيداً للزيارة المرتقبة للسعودية ضمن جولة بايدن المخطّط لها في الشرق الأوسط نهاية حزيران/ يونيو المقبل. ولكن، اللافت وسط مساعي الإدارة الحالية لإعادة بناء العلاقة مع الرياض، أن يستقبل وليّ العهد، الأمير محمد بن سلمان، وفداً "جمهورياً" من الكونغرس، ويستعرض معه القضايا المشتركة... فهل هي رسالة للديمقراطيين؟
عموماً، تتعاطى الرياض بإيجابية مع الخطوات الأميركية. تشعر بالانتصار، وتتصرف من موقع القوة، وتترك الباب مفتوحاً لما تمثله هذه العلاقة من أهمية استراتيجية لا بديل منها حتى اللحظة. إلا أن ذلك لا يعني أن السعوديين سيضعون بيضهم كله في سلة الأميركيين من جديد، في ظل عالم لم يعد محكوماً بسياسة القطب الواحد.
إن بروز قوى عالمية جديدة على الساحة الدولية يسمح للرياض بتشبيك علاقاتها بما يتناسب مع مصالحها، ويعطيها مساحة من التحرك وقدرة على اللعب على التباينات بدلاً من الوقوع تحت ضغوط محور واحد ورحمته وابتزازه، كما هو حاصل في العلاقة مع واشنطن، خصوصاً مع تقليص الأخيرة التزاماتها الأمنية إزاء الخليج وتراكم التحديات على مدى السنوات الأخيرة. وإن كانت أوضاع الحرب في أوكرانيا وارتفاع أسعار النفط دفعت واشنطن إلى تملّق السعودية وتأكيد التزامها بأمن المنطقة، إلا أن ذلك لا يعطي النهج السياسي الأميركي إزاء الخليج صفة الاستدامة، بل يبدو نهجاً استغلاليّاً.
ماذا تريد السعودية مقابل النفط؟
يريح التنازل الأميركي السعوديين، وإن مرحلياً، لأنه يعيد إحياء اتفاق الأمن مقابل النفط، إذ يبدو أنهم يستثمرون في الحرب الأوكرانية وتبعاتها بشكل جيد لتحقيق مصالحهم. في هذه المرحلة تدرك السعودية أهميتها التي حوّلتها إلى نقطة جذب عالمية. ليس وحده بايدن يزور السعودية، بل يسبقه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، وفي منتصف الشهرِ المقبل يزورها الرئيس الصينيّ شي جين بينغ. فرصة قد لا تتيحها الظروف مرّتين لفرض الشروط من موقع القوة.
في الحقيقة، حاول السعوديون دفع واشنطن إلى التعاطي بجدية مع مخاوفهم. عينهم على مزيد من صفقات الأسلحة والتكنولوجيا في حربهم على اليمن، بما يسمح لهم بتحقيق انتصارات على الأرض، كما يريدون من واشنطن ممارسة مزيد من الضغوط على طهران لتستخدم نفوذها على حركة أنصار الله لإبرام اتفاق يحفظ ماء الوجه، بعد سنوات لم تَجنِ فيها الرياض من الحرب اليمنية سوى الخسارة.
من جانب آخر، تدفع السعودية باتجاه إشراكها في ملف التفاوض حول الاتفاق النووي مع إيران، وتريد موقفاً أميركياً أكثر صرامة بشأن تطوير البرنامج الإيراني للصواريخ البالستية، فيما يرى البعض أن واشنطن تحقق استجابة جيدة للضغوط الخليجية والإسرائيلية بعد تراجعها عن رفع حرس الثورة الإسلامية من قائمة الإرهاب، غير أن السؤال المهم في هذه المرحلة يدور حول حجم التنازلات التي قد تقدّمها واشنطن، والتي قد لا يتّسق بعضها مع سياسة الديمقراطيين.
باختصار، قد تكون هذه مرحلة تبريد للعلاقات بين الطرفين، نتيجة الظروف التي فرضتها الحرب في أوكرانيا، ولكنّ إصلاح العلاقة بين الطرفين يحتاج حتماً إلى مزيد من العمل والكثير من التنازلات، وخصوصاً أن السعودية بالأمس ليست السعودية اليوم، إذ تبدو الظروف العالمية الحالية تلعب دوراً لصالحها، كما أن الولايات المتحدة الأميركية في الأمس ليست هيَ اليوم مع صعود قوى كبرى تنافسها وتزاحمها في النفوذ بقوة.
ربما من المهم أن نراقب كيف سيصافح بايدن الأمير محمد بن سلمان، وكيف سيحلّ ضيفاً على الأرض التي وصفها بالمنبوذة.