إيطاليا بين مطرقة الصين وسندان الولايات المتحدة الأميركية
لا يخفى الضّغط الذي يمارس على إيطاليا، سواء من الصين أو من الغرب، ولا سيما واشنطن، التي تدفع نحو انسحاب روما من مبادرة "الحزام والطريق".
في خضمّ التنافس المتصاعد بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، تجد إيطاليا نفسها عند مفترق طرق حول الانسحاب من مشروع "الحزام والطريق" أو البقاء فيه. ولا يخفى الضغط الذي يمارس على روما، سواء من بكين أو من الغرب، لا سيما واشنطن، التي تدفع نحو انسحاب إيطاليا من المبادرة الصينية التي ترى فيها آلية أو أسلوباً لبسط نفوذ الصين على العالم.
انضمت إيطاليا إلى مبادرة "الحزام والطريق" في أثناء زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى روما عام 2019، لتكون الدولة الأولى والوحيدة من مجموعة السبع التي توقع على المبادرة التي تم الاتفاق بين الصين وإيطاليا على أن تسري لمدة 5 سنوات من تاريخ التوقيع عليها، وأن تمدد بشكل تلقائي إلى مدد مماثلة. وإذا أراد أحد الطرفين الانسحاب منها، فعليه أن يقدم إنذاراً كتابياً قبل 3 أشهر على الأقل من تاريخ انتهاء المذكرة. وبالتالي، على الحكومة الإيطالية، إذا أرادت الانسحاب من الاتفاقية، أن تخطر الصين بذلك أواخر هذا العام.
مما لا شكَّ فيه أن رئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني ستناقش موضوع انسحاب إيطاليا من مشروع الحزام والطريق في اجتماعها مع الرئيس الأميركي جو بايدن خلال الزيارة التي تجريها إلى واشنطن حالياً. وكانت ميلوني قد صرّحت قبل الزيارة بأن الرئيس بايدن لم يفاتحها قط في مسألة انضمام روما إلى المبادرة.
وفي تعليقها على هذا التصريح، أشارت صحيفة "غلوبال تايمز" الصينية إلى أنَّ من الصعب -بالنظر إلى تشويه السياسيين الأميركيين لمبادرة الحزام والطريق- تصديق أنهم سيفوتون هذه الفرصة لتشويه المبادرة من خلال عدم ممارسة أيّ ضغط على إيطاليا.
تأتي زيارة رئيسة الوزراء الإيطالية لأميركا في وقت تحاول بكين إقناع أوروبا باتخاذ موقف أقل تشدداً تجاهها من الولايات المتحدة الأميركية التي فرضت قيوداً للحد من وصولها إلى التكنولوجيا المتقدمة. وتسعى الدول الأوروبية إلى عدم الانفصال عن الصين، بل التخلص من المخاطر، ومواجهة ما تسميه الإكراه الاقتصادي لبكين، ودفع الأخيرة إلى إدانة الهجوم الروسي على أوكرانيا.
وفي سعيها لحثّ روما على عدم الانسحاب من المبادرة، أرسلت الصين الشهر الماضي رئيس الدائرة الدولية للجنة المركزية للحزب الشيوعي ليو جيان تشاو إلى إيطاليا. وقد عقد اجتماعات مع رئيس مجلس الشيوخ اجناسيو لاروسا، ووزير الخارجية أنطونيو تاجاني، وجمعية أصدقاء الصين البرلمانية، لمحاولة إقناعهم بالبقاء في المبادرة. وجاءت مناشدة ليو بعدما زار رئيس مجلس الدولة الصيني لي تشيانغ أوروبا في أول رحلة له بصفته المسؤول الثاني في الصين.
وكما يبدو، فإن روما تتجه نحو الانسحاب من مبادرة الحزام والطريق استناداً إلى المعطيات التالية:
1- تصريحات ميلوني التي تشير إلى نيتها عدم تجديد الانضمام إلى المبادرة؛ فقبل وصولها إلى السلطة، وصفت انضمام إيطاليا إلى المبادرة بـ"الخطأ الكبير"، ولفتت إلى أنها ليس لديها رغبة سياسية... لدعم التوسع الصيني في إيطاليا أو أوروبا.
وفي أيار/مايو الماضي، قالت في مقابلة مع صحيفة "ال مساجيرو" اليومية إن العلاقات الجيدة مع الصين ممكنة، حتى وإن لم تكن بلادها جزءاً من المبادرة، وأشارت إلى أن إيطاليا، بالرغم من أنها الوحيدة من مجموعة الدول السبع التي انضمت إلى المبادرة، ليست الدولة الأوروبية والغربية ذات العلاقات الأقوى اقتصادياً وتجارياً مع الصين، وفي ذلك إشارة إلى العلاقات الاقتصادية القوية بين الصين وفرنسا وألمانيا، على الرغم من أن كلا الدولتين لم تنضما إلى الاتفاقية.
2- عندما التقت ميلوني الرئيس الصيني على هامش قمة مجموعة العشرين العام الماضي، قبلت دعوته لزيارة الصين، ولكن إلى الآن لم تزر بكين، وكان من المقرر أن تزورها في شهر أيار/مايو الماضي.
3- تدخّلت الحكومة الإيطالية في الآونة الأخيرة لمنع شركة "سينوكيم" الصينية من الاستحواذ على عملاق صناعة الإطارات "Pivelli" استناداً إلى سياسة "القوة الذهبية" المخصصة لحماية الأصول ذات الأهمية الاستراتيجية للدولة. ومن القيود التي فرضتها الحكومة الإيطالية على شركة "Pivelli" رفض الأخيرة أيّ طلبات من الشركة الصينية من أجل مشاركة المعلومات، بما في ذلك أي معلومات مرتبطة بالمعرفة الفنية للتقنيات الخاصة.
4- أخبرت ميلوني رئيس مجلس النواب الأميركي كيفن مكارثي، الذي التقته في روما خلال شهر أيار/مايو الماضي، أن حكومتها، بالرغم من عدم اتخاذ قرار نهائي بشأن المبادرة، تفضّل الخروج منها.
5- سعت روما في الآونة الأخيرة إلى زيادة التعاون مع تايوان. يظهر ذلك من خلال الزيارات المتبادلة للمسؤولين التايوانيين والإيطاليين؛ فقد زار روما الشهر الماضي وزير خارجية تايوان جوزيف وو. وقبل ذلك، عقد مسؤولون من وزارة الصناعة الإيطالية اجتماعات مع مسؤولين تايوانيين لمناقشة زيادة التعاون في إنتاج أشباه الموصلات، إذ تخطط تايوان لاستثمار نحو 400 مليون دولار في صناعة الرقائق الإيطالية.
وكانت ميلوني قد أعلنت قبل توليها السلطة رغبتها في تعميق العلاقات مع تايوان. وخلال العام الماضي، ارتفعت التجارة بين روما وتايبيه نحو 13%، وهناك خطط لتعزيزها أكثر مع افتتاح مكتب تمثيلي جديد لتايوان في مدينة ميلان.
6- ترى إيطاليا أنها لم تشهد أيّ عائد اقتصادي بعد توقيع الاتفاقية؛ فإذا كان التبادل التجاري بين البلدين ارتفع من 55 مليار دولار عام 2020 إلى ما يقارب 78 مليار دولار عام 2022، إلا أن هناك اختلالاً في التوازن التجاري لمصلحة الصين التي زادت صادراتها إلى إيطاليا بنحو 18 مليار دولار، فيما نمت الصادرات الإيطالية إلى الصين بمقدار 4 مليارات بين عامي 2020 و2022.
أثار انضمام روما إلى مبادرة الحزام والطريق عام 2019 استياء وغضب الإدارة الأميركية التي سعت جاهدة إلى الضغط على روما للانسحاب منها، وضغطت على بعض الدول للابتعاد عن شركة هواوي الصينية وتقييد إرسال الرقائق الإلكترونية المتطورة إلى الصين.
إذا كان القرار النهائي حول الانسحاب أو البقاء في المبادرة لم يتخذ بعد في روما، إلا أن المناقشات تركز على كيفية الخروج منها، وليس ما إذا كان يجب الانسحاب؛ فإيطاليا تسعى إلى الخروج من المبادرة من دون أن تتعرض لأي رد فعل قوي من بكين يؤثر في اقتصادها. وستناقش ميلوني مع الرئيس بايدن الخيارات المتاحة للتعويض عن الخسائر التي ستلحق ببلادها من جراء الانسحاب من المبادرة.
إنَّ انسحاب إيطاليا من المبادرة من دون أن تتخذ بكين أي رد فعل بسبب ذلك سيظهر الصين بموقف الضعيف، وسيدفع العديد من الدول الأخرى إلى الانسحاب، وستعمد بكين حتى آخر العام إلى محاولة إقناع روما بالبقاء في المبادرة، وربما تلتقي ميلوني الرئيس الصيني على هامش قمة مجموعة العشرين التي ستعقد في الهند خلال شهر أيلول/سبتمبر المقبل.
إنّ القرار الإيطالي لن يكون سهلاً، فالانسحاب سيعزز التأكيد على موقف إيطاليا الغربي، لكنه سيضر علاقتها بالصين. في المقابل، البقاء في الاتفاقية سيحرج روما أمام الغرب الذي يسعى إلى تقليل الاعتماد على الصين.