أيّ أفكار اقتصادية تحكم سوريا اليوم؟ وما التبعات السياسيّة لتبنّي "الاقتصاد الحرّ"؟

دمشق أمام تحدّيات جمّة، والاقتصاد يتقدّمها، لأنه مرتبط كلّياً بمسائل السياسة، حتى على مستوى العملة المستخدمة، فثمّة قلق عامّ بسبب تراجع الثقة بالليرة السورية كعملة وطنية مع تفشّي استخدام الليرة التركية على نطاق واسع.

  • يعيش السوريون اليوم مرحلة هي الأصعب في تاريخهم الحديث.
    يعيش السوريون اليوم مرحلة هي الأصعب في تاريخهم الحديث.

عاشت سوريا لعقود متأثّرة بأفكارٍ تُعلي من قيمة القطاع العام، وتدعو إلى تدخّل الدولة لإدارة الاقتصاد بالشكل الذي يضمن مصالح الفئات الأقلّ دخلاً، وكانت دمشق لسنوات طوال قبل الحرب التي فُرضت عليها مع ربيع 2011، مضرب المثل في إمكانية توفير العديد من الخدمات المجانية للمواطنين في مجالاتٍ كالتعليم والصحة، مع تحقيق فائض اقتصاديّ في العديد من المناحي.

ورغم أنّ أحوال السوريين لم تكن مثاليّة منذ الثمانينيات وحتى نهاية العقد الأول من القرن الـ 21، كما لم تحظَ برضا المواطنين كافة، إلا أنها كانت مقبولة بالنسبة لدولة لا تملك مخزونات نفطية هائلة كما هو حال دول الخليج، كما أنها مُستحسنة للغاية بالنظر إلى وضعٍ دولي معارض لخيارات دمشق السياسية مثل رفض التطبيع ومساندة المقاومة، ما عرّضها لسيل من العقوبات منذ عهد حافظ الأسد، وحتى ما قبل "الربيع العربي"، الذي استمرت لاحقاً ألسنة نيرانه في التصاعد إلى أن أحرقت النظام والدولة معاً بعد 13 عاماً من الصمود والمثابرة.

يعيش السوريون اليوم مرحلة هي الأصعب في تاريخهم الحديث، إذ يعتبرها البعض مرحلة انتقالية يمكن أن تحمل البلاد نحو مستقبل أفضل ما يتطلّب الصبر والتأنّي وتأجيل الأحكام، ويراها آخرون أنها المرحلة الفاصلة بين دولة منهكة بفعل الحرب وبين دولة ساقطة بالكلية كنتيجة حتمية لتنامي حالة الانقسام والتشظّي وتفشّي الأفكار الطائفية، والإصرار على تطبيق مفاهيم سلفية لا يمكن أن تتواءم مع العصر الحديث وطبيعة المجتمع.

من الناحية الاقتصادية، وهي الأهم بالنسبة إلى المواطن السوري، الذي يبحث محكوماً بغرائزه الطبيعية ـــــ والمشروعة ـــــ عن أوضاعٍ آمنة وغذاء وفير يقيه مخاطر الجوع، فإنّ التصريحات التي يدلي بها المسؤولون في حكومة محمد البشير التي منحها قائد "هيئة تحرير الشام" أحمد الشرع/الجولاني شرعيّة الحكم، تشير في مجملها إلى تبنّي منهج "الاقتصاد الحرّ"، والذي يعني عملياً مناشدة المستثمرين الغربيين للعمل داخل سوريا، مع تقديم كلّ التسهيلات اللازمة والمطلوبة.

كان أوّل ما رشح من أخبار تكشّف أفكار نظام الحكم الجديد، ما قاله رئيس غرفة تجارة دمشق باسل الحموي بتاريخ 11/12/2024 بأنّ "سوريا تتجه إلى تبنّي نظام اقتصادِ السوق بعد سنواتٍ طويلة من النهج القائم على السيطرة المركزية للدولة في مختلف مفاصل الاقتصاد". تلك التصريحات التي تمّ تسريبها على عجل لوكالات الأنباء الغربية، واحتفت بها وسائل الإعلام التي تؤيّد "الثوّار" كانت بهدف مباشر، وهو مغازلة الرأسمال الغربي الذي يرغب القائمون عليه في الهيمنة على أسواق دول الجنوب كافة، من دون تدخّل حكومي يعرقل وجودهم، أو يطالبهم بالاستثمار في مجالات عمل معيّنة، أو يدعوهم لتوظيف قدر عمالة معيّن وسداد الضرائب المستحقّة.

حكومة الإنقاذ التي يتزعّمها محمد البشير، لها تجربة في إدارة عدد من مناطق محافظة إدلب لسنواتٍ مضت، ولم تحظَ برضا شعبي كامل حينها، إذ خرجت ضدّها عدد من التظاهرات متهمة إياها بالفشل في إدارة الشأن الاقتصادي، بالإضافة إلى تنفيذ حملات اعتقال بحقّ معارضي "تحرير الشام" أو بالأحرى الجولاني، وتسفير بعض السجناء للقتال في أوكرانيا؛ حكومة الإنقاذ لم تدخل في صدام مع الكتلة الشعبية التي تحكمها فقط، بل كانت في حالة مناكفة مستمرة مع "الحكومة السورية المؤقتة"، التي سبقتها في إعلان إدارة "المناطق المحرّرة" في شمال غربي سوريا، بدعم تركي دائم وغربي أحياناً.

على أيّ حال، يعي الجولاني وفريقه وحلفاؤه خارج البلاد، أنّ العامل الرئيس الذي تسبّب في سرطنة أركان نظام بشار الأسد وتجويف قاعدته الشعبية، كان عجزه في سنوات حكمه الأخيرة عن نيل رضا المواطنين فيما يتعلّق بالملف الاقتصادي، والسبب المباشر يتمثّل في قانون قيصر العقابي، الذي فرضه دونالد ترامب خلال فترة رئاسته الأولى، بين عامي 2019 ـــــ 2020؛ وانطلاقاً من هذا الوعي، يطالب كلّ المسؤولين السوريين اليوم برفع العقوبات الاقتصادية. 

لكنّ الإدارة الأميركية لا يمكن أن تمنح لنظام حكم هشّ ومضغوط "طوق النجاة الاقتصادي" من دون مقابل، أما الثمن الذي يُبدي النظام السوري استعداده لدفعه حتى الآن، فهو الحديث بنبرة عدائية تجاه طهران والتماهي مع الشعارات الطائفية التي يتمّ توظيفها حصراً للنيل من محور المقاومة، مع التغاضي عن توجيه أيّ إدانة ولو شكليّة للعدو الإسرائيلي، لكن يبدو أنّ ما تريده واشنطن أكثر، في ملف السياسة والتطبيع كما ملفّ الاقتصاد.

في حال تتبُّع الخطوط العريضة التي تحكم الرؤية الاقتصادية لحكومة البشير ـــــ الجولاني في دمشق، فإنها لن تخرج عن الإنصات جيداً لنصائح صندوق النقد الدولي والعمل في ضوئها، طمعاً في أن يجلب ما سبق رضا الغرب سياسياً واقتصادياً، خاصة أنّ ذلك التوجّه كفيل بضمان تدفّق المساعدات الخليجية المرتبطة بالمصالح الأميركية، ويمكن رصد البرنامج الاقتصادي لعمل الحكومة السورية حالياً من خلال النقاط الآتية:

أولاً، تسريح للموظفين

السعي إلى تسريح عدد كبير من الموظفين العاملين في قطاعات الدولة السورية المختلفة، ويتراوح عدد الموظفين الحكوميّين بين المليون وربع المليون إلى المليون ونصف المليون، ويصرّح وزير المالية السوري محمد أبازيد بأنّ "هناك 300 ألف موظف سيتمّ شطب أسمائهم ممن كانوا يتقاضون رواتب دون عمل".

الحكومات المُلتزمة بأجندة مؤسسات المال الدولية دوماً ما تسوّق المبرّرات ذاتها مثل: "البدانة الوظيفية"، "إعادة هيكلة ضرورية لعلاج الترهّل"، "الوظائف تمّ منحها بناء على الولاء السياسي".. إلى آخر تلك الدفوع، بينما السبب الحقيقي وراء هذا الإجراء يكون ببساطة التخفّف من التزام الدولة بسداد رواتب شهرية، وبالتالي علاج عجز الموازنة عبر تقليل النفقات، كمثال ربّ الأسرة الذي يرى أنّ العلاج النافع لعدم كفاية دخله الشهري لنفقات أسرته، هو عدم إرسال أبنائه الصغار إلى المدارس، أو إجبار الفتيات القُصّر على الزواج لكي يُسقط من على كاهله أعباءهم وأعباءهنّ.

هذا التوجّه، الذي تعلن الحكومة السورية اعتماده، دفع، على سبيل المثال، عشرات من موظفي قطاع الصحة في محافظة طرطوس الساحلية إلى التظاهر رفضاً للقرارات بتاريخ 23/12/2024، معربين عن قلقهم من تصريحات مدير صحة المحافظة الذي يعمل في ضوء أفكار وزير الصحة ماهر الشرع (شقيق الجولاني)، والتي تشير إلى أنه "سيتمّ انتقاء موظفين للبقاء، والبقيّة ستُحال إلى المعاش المبكر، أو ستتنظر لحين تأمين وظائف أو دوائر أخرى، بعد أن يتمّ إبعادها عن العمل بموجب إجازة إجبارية براتب لثلاثة أشهر"، وهو ما يعني عملياً تسريح الموظفين، مع الأخذ في الاعتبار أنّ مسألة توفير وظائف بديلة أمر يمكن التشكيك فيه بسهولة بالنظر إلى برنامج عمل الحكومة، وبرصد الحملة الإعلامية التي يتمّ شنّها لتشويه سمعة مئات الآلاف من الموظفين، الذين كانوا يعتمدون على رواتبهم البسيطة لتأمين حاجاتهم المحدودة.

ثانياً، الخصخصة

منذ سقوط دمشق، تكرّرت إشارة قطاع واسع من المسؤولين السوريين إلى فشل شركات القطاع العام، ومؤخّراً بتاريخ 5/1/2024 صرّح وزير المالية السوري، محمد أبازيد، أنّ "الحكومة تدرس خصخصة الشركات الحكومية الخاسرة".

هذا التوجّه يؤكّد أنّ الحلول التي تطرحها الحكومة الحالية لعلاج الصعوبات التي تواجه المنشآت والمؤسسات الصناعية والتجارية المملوكة للشعب السوري، لن تكون عبر تغيير الإدارة وإجراء عملية إنعاش سريعة لتلك المؤسسات التي كانت معظم خسائرها بسبب الحرب، وإنما الحلول ستتمثّل في الخصخصة والبيع، وهو ما يتفق تماماً مع برنامج صندوق النقد الدولي.

ثالثاً، رفع الدعم

يواجه السوريون أزمة غلاء جعلت الملايين منهم يكافحون للحصول على الغذاء وباقي حقوقهم الاقتصادية، ورغم أنّ النظام السابق سعى خلال الفترات الماضية إلى رفع جزئي للدعم عن بعض السلع بسبب ظروف الحرب والعقوبات الخارجية، إلا أنه كان حريصاً على تجنّب خفضه بشكل مفاجئ حتى لا يتسبّب ذلك الإجراء في ارتفاع جنوني للأسعار.

مع رحيل الأسد، طمح قطاع من السوريين أن يجلب التغيير تحسّناً في الوضع الاقتصادي، خاصة مع وعود زيادة الرواتب إلى 400%، وهي الوعود التي ظلّت حبيسة شاشات الفضائيات، ولم تجد سبيلاً للتنفيذ على الأرض، على العكس من ذلك تسبّب وزير التجارة الداخلية، ماهر خليل الحسن، في صدمة للجمهور السوري، عندما صرّح بأنه سيتمّ إلغاء الدعم بشكل كامل عن الخبز في غضون شهر أو شهرين بحد أقصى، ما أدى إلى ارتفاع سعره في الأسواق على نحو غير مسبوق.

تحديات جمّة

المهم فيما سبق أنّ هذا النوع من الإجراءات الاقتصادية التي تشلّ يد الدولة عن إدارة الاقتصاد لما فيه صالح الوطن والمواطن، أنها تعني عملياً إمّا سيطرة أقليّة مالية على شؤون الدولة بالمجمل، أو إباحتها لقوى خارجية للسيطرة عليها وإدارتها نيابة عن المسؤولين الذين تركوا مقاعدهم شاغرة، خاصة أنه في ظلّ المعطيات الحالية، فإنّ خطاب قيادة البلاد سيتمحور حول شيء مُحدّد يتمثّل في مناشدة التكتّلات المالية الكبرى بالخارج للدخول إلى البلد والشروع في تأسيس استثمارات فيها، وقد صدرت عن مسؤولين سوريين خلال الأيام الماضية تصريحات تؤنّب قيادات النظام السابق، لأنها أصرّت على تحصيل ضرائب كبيرة، ما أزعج المستثمرين، علماً بأنّ هذه الأموال هي ما تُخصص للإنفاق على التعليم والصحة والثقافة.. إلخ.

دمشق اليوم أمام تحدّيات جمّة، والاقتصاد يتقدّمها، لأنه مرتبط كلّياً بمسائل السياسة، حتى على مستوى العملة المستخدمة، فثمّة قلق عامّ بسبب تراجع الثقة بالليرة السورية كعملة وطنية جنباً إلى جنب مع تفشّي استخدام الليرة التركية على نطاق واسع داخل المدن السورية الكبرى، هذا الأمر لا يفارق ميدان التبعيّة السياسيّة بطبيعة الحال، كما لا ينفصل عن اعتماد حكومة الإنقاذ "الليرة التركية" خلال فترة إدارتها لإدلب، قبل دخولها دمشق، كما يتناغم مع انتشار غير مسبوق للصادرات التركية رخيصة الثمن قليلة الجودة، بما يهدّد مستقبل الصنّاع السوريين المحليين متوسطي الثروة.

الأزمة، أيضاً، أنه عندما تتجه حكومة للتخلّي عن دورها الريادي في إدارة الاقتصاد، وتضع البيض كلّه في سلال المستثمر الأجنبي فإنها ترهن قرارها السياسي لصالح الجهة أو الدولة التي يتبعها ذلك المستثمر. خلال الأيام القليلة الماضية رفض الرئيس الأميركي جو بايدن بيع واحدة من أكبر شركات صناعة الصلب الأميركية لليابان "يو إس ستيل"، لأنه اعتبر الأمر مساساً بالأمن القومي، رغم أنّ اليابان أهمّ حليف للدولة الأميركية في منطقة المحيط الهادي، ورغم أنّ الولايات المتحدة الأميركية هي ما هي في مجال تحصين أمنها القومي، فما البال بحكومة تواجه صعوبات في توفير الأمن الداخلي، وتركض خلف المسؤولين الغربيين لرفع العقوبات، فأيّ أثمان سيتمّ دفعها ضمن هذا السياق؟!.