أوكرانيا.. رواية غير أميركية لما يجري
تأخذ التحركات الروسية داخل حدودها معنىً آخر، ينطوي على عملية دفاع، وليس على عملية غزو، هدفها الأساسي تأمين العمق الاستراتيجي.
توتُّر مُزمن، وتأهُّب يشعر معه العالم كأنه على أعتاب حرب عالمية ثالثة، لكن في شكلها الجديد الممكن. ليست الإجراءات العسكرية وحدها تُحسَب بحذر، وإنما أيضاً لغة البيان السياسي والتصريح. لافروف صرّح أكثر من مرة بالتمسك بمبدأ "الأمن غير القابل للتجزئة". روسيا، قياساً بما يجري في أوكرانيا، جرّت الولايات المتحدة إلى حوار لا تريده الأخيرة، وربما خفّفت روسيا حدّةَ التسويف، من أجل الإجابة عن سؤال مصيري بالنسبة إلى موسكو: ماذا عن دور "الناتو" عند حدودها؟
التصريحات والإجراءات الأميركية تنطلق جميعاً من رواية واحدة، مفادها أن روسيا، التي تُجري تدريبات ومناورات داخل حدودها، تتوسّع في اتجاه أوكرانيا من أجل قضم مزيد من أراضيها (على اعتبار أن "ضم القرم" عام 2014م كان كذلك)، وأن الولايات المتحدة، مع محاولتها استعادة روح الوصاية على الديمقراطية في العالم، بعد وصول بايدن إلى الحكم، لن تسمح بمزيد من هذا القضم للأراضي الأوكرانية، فتعلن تأهُّب 8500 جندي أميركي، وتدعو "الناتو" إلى أخذ موقف صارم وحاسم، وتفرض العقوبات التي تستهدف البنوك والشركات الروسية.
في الولايات المتحدة، لا يُعلَن عن حرب إلاّ نتيجة ذريعة "أخلاقية" جذّابة. ففي الحرب على أفغانستان، كانت الذريعة إنقاذ العالم (وليس الولايات المتحدة وحدها بعد تحطيم برجَيْها) من مخاطر التنظيمات الإرهابية. وفي الحرب على العراق، كان المبرِّر تخليص العالم من أسلحة تدميرية، لا يمكن حلُّ ألغازها إلاّ عبر دخول الجيش الأميركي بغدادَ. وفي أوكرانيا، لا يمكن حماية سيادة البلاد إلاّ من خلال دعمها ضد شبح الإمبراطورية البرية عند حدودها.
"اليوم الذي أدركتُ فيه أنني لن أجد أسلحة للدمار الشامل في العراق"، لم تكن شهادات المحاربين أو ضباط الاستخبارات لتعني شيئاً بعد 17 عاماً من الحرب، بعد دفن الجثث، واستقرار المهاجرين في البلاد الجديدة، وتفكيك مؤسسات الدولة. على الشاكلة نفسها، لم يكن التصريح عن "الأخطاء" التي ارتكبتها الولايات المتحدة في أفغانستان يعني شيئاً. كل ذلك كان يدور في فلك دعاية أميركية لاحقة لدعاية الحرب، مفادها أنّ الحوار المفتوح والشفّاف داخل الولايات المتحدة يبقى فعّالاً دائماً، حتى عن "الأخطاء".
تبدو الحالة الأوكرانية مُغايرة للحالتين العراقية والأفغانية. فالخصم هو روسيا، بما تمثّله من قوة عظمى، وتبدو الذرائع الأميركية من دون مدة صلاحية كافية، وسريعة الانكشاف بعد الحروب التي انتهت مع تفكيك أوهام أسبابها المعلَنة.
في "دليل الأمن القومي الأميركي"، الذي وقّع عليه جو بايدن بعد شهرين من دخوله البيت الأبيض، تحدِّد الاستراتيجية الأميركية أولوياتها، وتُذكَر روسيا في 6 سياقات متعددة، تؤكد الولايات المتحدة، في واحد منها، أهمية تطوير القدرات العسكرية الأميركية، والمحافظة على قوة جاهزة ومدرَّبة من أجل ما سمَّته التحديات الاستراتيجية الروسية.
تعيش الولايات المتحدة ما وصفه بول كينيدي بـ"عبء التوسُّع". وبسبب ذلك، فإنّ أي مغادرة للولايات المتحدة من مستنقع الشرق الأوسط، لا تنطوي على تراجع أهمية مصالحها الاستراتيجية فيه، وإنما على عجز السيطرة والتحكُّم في مساحات متعددة في العالم، في وقت واحد، ولاسيما مع وجود مساحات صاعدة بقوة يجب تداركها وتطويقها سريعاً، وتقع روسيا في خانة الأولويات الأخيرة هذه.
المشروع الأميركي من أجل تطويق روسيا في حاجة إلى ذريعة "أخلاقية"، جذّابة ومتينة ومنسجمة مع مبدأ "التمويه القِيَمي" للإدارة الديمقراطية. وبسبب ذلك، تتحول عملية التطويق الأميركي لروسيا إلى مساعدة أميركية لأوكرانيا على مواجهة اجتياح أو غزو روسي (invasion). وهذه هي اللغة الرائجة في وسائل الإعلام اليوم.
خارج الرواية الأميركية
في كتابه، "انتقام الجغرافيا"، يقول روبرت كابلان إن روسيا، التي حمتها ممرّات الغابات ضد الغزاة الهائجين، سقطت في القرن الثالث عشر فريسةً للقبيلة الذهبية من المغول. وعندما تحوّلت روسيا إلى إمبراطورية برية، افتقرت إلى العوائق الطبيعية ضد الغزو، باستثناء الغابات نفسها. لذلك، حمت نفسها من الغزوات الوحشية عبر التوسع وتأمين مناطق الظل القريبة.
وهو ما يؤكده ضمنياً الباحثان في معهد كارنيغي، جوليا جورجانوس ويوجين رومر، في دراسة بعنوان "الطموحات العالمية لروسيا"، ويقولان فيها إن واحداً من أهم أضلاع السياسة الخارجية الروسية هو المحافظة على عمق استراتيجي ومسافات أمان كافية ضد الاعتداء الخارجي، ولاسيّما مع مساحات الدولة الشاسعة وحدودها المترامية الأطراف.
استناداً إلى ذلك، تأخذ التحركات الروسية داخل حدودها معنىً آخر، ينطوي على عملية دفاع، وليس على عملية غزو (invasion)، هدفها الأساسي تأمين العمق الاستراتيجي الكافي من أجل حماية الدولة الروسية من توسع "الناتو".
إذا كنا لم نشهد في السابق "غزواً" روسياً لأوكرانيا، فإننا شهدنا محاولات توسع "الناتو" عند حدود روسيا، وبعيداً حتى عن مناخات الحرب الباردة. فبعد الانهيار الكبير للاتحاد السوفياتي، كانت أوكرانيا أُولى الجهات المستهدَفة من أجل نشر المنظمات غير الحكومية، الأميركية والأوروبية، وكانت حصتها هي الأكبر بين جمهوريات الاتحاد السابقة، على نحو يقارب 400 منظمة تقريباً.
كانت الرؤية الاستراتيجية الأميركية، آنذاك، تنطوي على مبدأ منع تشكيل إطار اتحادي جديد من الطرفين الأكبر في الاتحاد القديم، والمقصود هنا روسيا بحدودها الجديدة، وأوكرانيا بحدودها الجديدة أيضاً. ونشطت المنظمات غير الحكومية في سلخ الاعتماد الاقتصادي الأوكراني على الاقتصاد الروسي، وبالتوازي نشطت في الجوانب الثقافية، وصدرّت نماذج ثقافية للأوكرانيين، مفادها أن الوحدة مع روسيا (سواء في كييف روس) أو (الاتحاد السوفياتي) لم تجلب للأوكرانيين سوى الذل والجوع. وبذلك، عملت هذه المنظمات على تظهير صور مجاعة الهولومودور، التي طالت الجميع في الموسم الزراعي عام 1932م.
بعد الانهيار السوفياتي، تساءل المحللون عن جدوى استمرار حلف "الناتو" مع تلاشي التهديد الأكبر له، وكانت الإجابة جاهزة في إعلان عام 1991م بشأن تأسيس مجلس تعاون شمال الأطلسي، وهو هيئة تضمّ "الناتو" ودولاً من تركة حلف وارسو. على الرغم من سقوط الاتحاد السوفياتي، فإن "الناتو" كان يهدف إلى منع يقظة روسيا من خلال الهيئات الجديدة، وانتقل الدور الأساسي لـ"الناتو" في تلك المساحة من التأهب لحرب باردة إلى التطويق الكابح لأيّ يقظة روسية جديدة، مهما يكن شكلها وطبيعتها.
نشط "الناتو" في عقد اتفاقيات الشراكة من أجل السلام، وهذه الاتفاقيات مصمَّمة من أجل تفعيل التعاون مع عدد من جمهوريات الاتحاد السابقة، والتي لا يمكن ضمها مباشرة إلى "الناتو". وبالتالي، يتم الاتفاق على حُزم تعاون (عسكرية وأمنية، في الدرجة الأولى) من دون الحاجة إلى عضوية. استهدفت هذه البرامج دولاً، مثل أذربيجان وجورجيا وكازاخستان وقيرغيزيا وليتوانيا ولاتفيا وغيرها.
خَطا "الناتو" خطوات أوسع لاحقاً، وانتقل من نظام الحُزم في التعاون إلى تحضير العضويات، وهذا ما جرى مع جورجيا عام 2008م. ولم تكن الخطوة "الباتريوتية" لبوتين، كما يسمّيها ألكسندر ديوغين، إلاّ منعاً لهذا الانضمام الرسمي.
في الرواية غير الأميركية لما يجري في أوكرانيا: لروسيا تجربة مريرة وطويلة مع "الناتو" في محاولات التطويق. لذلك، فإن توسيع روسيا عمقَها الاستراتيجي يصبح ضرورة حياة للدولة. وبسبب ذلك، يصبح انضمام القرم (بعد استفتاء المواطنين بنسبة مؤيدة 96%) حادثة معقولة. وعلى كتف الجزيرة لو طلبت دونتيسك ولوغانسك لاحقاً الانضمام إلى روسيا، فليس غريباً ولا مستهجَناً أن يكون الرد الروسي بالإيجاب!