أوراسيّة دوغين.. جرأة في مواجهة الغرب
استطاع دوغين أن يسوّق لفشل الليبرالية في تجسيد لحظة نهاية التاريخ، واعتبر أنَّ انتصار الليبرالية الغربية على الفاشية والشيوعية لن يعفيها من أن تواجه المصير نفسه.
ليس من الصّعب ادعاء التيقّن من معرفة الجهة التي حاولت اغتيال المفكر والفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين في إحدى ضواحي موسكو، والتي أدت إلى مقتل ابنته داريا، إذ إن محاولة استهداف رجل بموقعه تدلل على تخطيط عميق لدى الجهة المنفذة؛ فالهدف الأساسي لهذه العملية يتخطى محاولة إحداث فوضى أمنية في الداخل الروسي أو إيصال رسالة عن حجم الضرر الممكن إحداثه إذا ما استمرت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، إذ إنَّ الحديث عن دوغين يبقى ناقصاً إذا ما تجاهلنا الالتفات إلى الأثر الذي خلفته فلسفته السياسية.
إن إمكانية الارتكاز على منظومة متكاملة من الأفكار المناهضة لقواعد النظام الدولي الأورو-أميركي شكلت خطراً يوازي في تأثيره الحديث عن العودة إلى المشروع القديم الجديد القائم على أساس الأهمية الإستراتيجية لأوراسيا ودورها المحوري في نظام متعدد الأقطاب.
وإذا كانت المنظومة الغربية الأورو-أميركية نجحت، من خلال اعتمادها على القدرات العسكرية والاقتصادية والثقافية لدولها، في فرض قواعدها كإطار حاكم لشكل النظام الدولي، فإن دوغين استطاع أن يقدم للدولة الروسية، صاحبة القدرات العسكرية الهائلة والاقتصادية الواعدة، بعداً ثقافياً ومعنوياً يمكن أن يساهم في بناء قوة ناعمة تمكّنها من التأثير في تشكيل نظام دولي خارج إطار الهيمنة الغربية.
الولايات المتحدة الأميركية المستفيدة من الإسهامات الفكرية لعدد كبير من المفكرين المستعدين لتقديم كم هائل من الطروحات المساهمة في التسويق لنهاية عصر التحولات الفكرية القادرة على نسف طروحات الليبرالية الغربية، اصطدمت، مع ألكسندر دوغين، بأفكار يمكن توصيفها كمنظومة فكرية متكاملة قادرة على أن تقدم طرحاً عملياً متحرراً من النظريات السياسية التقليدية للقرن العشرين.
وفي هذا الإطار، استطاع دوغين أن يسوّق لفشل الليبرالية في تجسيد لحظة نهاية التاريخ، واعتبر أنَّ انتصار الليبرالية الغربية على الفاشية والشيوعية لن يعفيها من أن تواجه المصير نفسه؛ فالسياق التاريخي الذي أعقب انهيار الاتحاد السوفياتي لم يؤدِ إلى استقرار الأحادية القطبية الأميركية، إنما استمر وفق منهج الحروب العدوانية العبثية والمدمرة التي شنتها الولايات المتحدة الأميركية بدعم من حلفائها.
ولأن النتيجة العملية لسياق الحروب الأميركية المتتالية لم تكن على قدر توقعات نهاية التاريخ، وأمكن تظهير الصراع بين الحضارات كعائق لا يمكن لليبرالية تخطيه، لم تستطع الأحادية القطبية الصمود، وتراجعت ليشهد العالم مجابهة مفتوحة بين محور دول حلف شمال الأطلسي ومحاور متقاطعة في المصالح، حيث تنشط على مستويات دولية أو إقليمية.
بحسب دوغين، تتجلى الإشكالية الرئيسية التي تهدد الاستقرار العالمي في تسويق الليبرالية لنفسها على أنها الحقيقة الثقافية والحضارية المطلقة، إذ إنها لا تعترف بإمكانية انبثاق منظومة فكرية منفصلة عن الشيوعية والفاشية. ومن خلال سعيها الدائم للهيمنة على الفكر والثقافة، عملت الليبرالية على تكريس تصنيف ثنائي للعلاقات السياسية، بحيث لا يحتمل أي تعديل أو تغيير.
وفي مقابل الحرية الفردية والديمقراطية وتعميم الثقافة الغربية كأسلوب حياة، ظهّرت الليبرالية الأنظمة الفاشية والشيوعية كتعبير عن أنظمة شمولية متشابهة من حيث آليات العمل والأهداف، من دون أن تتقبل إمكانية انبثاق مشروع مختلف من حيث الشكل والمضمون. وفي هذا الإطار، يرفض دوغين التعميم الغربي لوجود حقيقة ثقافية وحضارية مطلقة، إذ يعتبر أن من الضروري مواجهة أي محاولة لفرض كينونته على الآخرين.
أما خطورة دوغين بالنسبة إلى الغرب، فهي تكمن في أنه، أولاً، لم يكتفِ بإطار نظري لفلسفته الرافضة للعولمة والغرب، إنما تعداها إلى مشروع متكامل عرّف عنه بالنظرية السياسية الرابعة؛ فإذا كان الغرب قد سوّق للعولمة كأحد أعمق تفاسير الليبرالية، وفق منطق نهاية التاريخ وصراع الحضارات، أي وفق منطق عدم إمكانية ظهور أي منظومة فكرية قادرة على أن تكون بديلاً أو منافساً للليبرالية، فإن النظرية السياسية الرابعة انطلقت من نقيضها، إذ أكد دوغين أن الحضارات لا تتلاشى مع الزمن، وأن الليبرالية لا يمكنها أن تقيّم الحضارات الأخرى وفق معاييرها.
وإذا كان هناك حلّ يمكن الركون إليه في هذا الإطار، فيجب على الليبرالية أن تتخلى عن طروحاتها لنهاية التاريخ المرتكز على انتصار فكرها وثقافتها؛ فالحوار بين الحضارات هو الكفيل بضمان السلم والأمن الدوليين، والقادر على تغيير نمط العلاقات الدولية من الهيمنة الأميركية التي سادت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي إلى التعددية القطبية التي يعتبرها دوغين ضرورة حيوية.
من ناحية أخرى، تخطى ألكسندر دوغين إطار المشروع النظري ليقدم نموذجاً عملياً قابلاً للتطبيق؛ فمن خلال حديثه عن التمدد الغربي باتجاه الشرق، رأى أنّ القومية الروسية قادرة على أن تقف في وجه هذا التمدد. ومن خلال تحليله هذه القومية، اعتبر أنه لا يمكن تقييدها بالإطار السياسي فقط، إنما وجد أنها تعبّر عن هوية تتخطى حدود الأيديولوجيا، وتشكل جسداً متماسكاً يرتكز على الوعي الإنساني.
وانطلاقاً من تقديره للوعي الإنساني، عبّر دوغين عن عدائه للعولمة، بما تمثله من تمدد أطلسي نحو الشرق، ودعا فلاديمير بوتين إلى مواجهة هذا التمدد، إذ كان أول من شجع على ضم شبه جزيرة القرم، ودعا إلى ضرورة ملاقاة الروح الروسية التي أيقظها الكفاح الانفصالي في شرق أوكرانيا.
إضافةً إلى ذلك، لا يمكن فصل العملية العسكرية الروسية التي استندت إلى إطار نظري قدمه دوغين في شرق أوكرانيا عن مشروعه للعقيدة الأوراسية الذي نظّر له في كتابه "أسس الجيوبولتيكا"؛ فالاستفادة من القوة الصلبة كإحدى ركائز العقيدة الأوراسية في مشروع التمدد الروسي إلى حيث الحدود القومية للشعب الروسي، إضافة إلى تمتين العلاقات والتحالفات مع القوى الإقليمية والدولية المناهضة للولايات المتحدة الأميركية، تؤكد التزام المشروع الروسي بنظرية دوغين، التي تعتبر أن استعادة أوكرانيا ستمثل بداية رسم مسار الاستقلال الجيوبوليتيكي لروسيا، بما يعنيه هذا الأمر من تأثير سلبي في موقع الغرب ومشروعه المصيري للعولمة.
وبناء عليه، يمكن القول إنَّ الرؤية التي قرأها الغرب في مسار السياسة الخارجية لروسيا تفترض احتلال ألكسندر دوغين موقع المنظِّر الفكري القادر على أن يجرد مشروع العولمة الغربية من عناوينه التجميلية، والقادر على أن ينقل العلاقات الدولية من إطار اللون الواحد المثالي الغربي إلى الواقعية المتطابقة مع الطبيعة الإنسانية التي تفترض نظام دولياً متعدد الأقطاب.
وأخيراً، يمكن القول إنَّ المفكر والفيلسوف الروسي دوغين رسم لنفسه وللدولة الروسية مساراً يتجاوز خطوط العولمة الحمراء، فالجرأة الروسية في استخدام القوة العسكرية في شرق أوروبا، وانتهاجها أساليب الغرب في معاقبة الدول المناوئة، إضافةً إلى ما يمكن تأسيسه على عمليتها العسكرية في أوكرانيا، تؤكد واقعية روايته وأنصاره حول الغرب المتعثر والضعيف، وتجعل موعد الانتقال الحتمي من الأحادية الأميركية إلى تعددية قطبية قريباً؛ فمقاله في كتابه "أسس الجيوبولتيكا" "قطبان كحد أدنى أو الموت"، يجسد نوع التحدي الذي فرضه على الغرب، بما يجعل محاولة اغتياله ضرورة في القاموس الغربي.