أميركا: مرض ثقافة العنف وعجز المشرّعين
تتباين التحليلات الرسمية والعلمية الأميركية في سبر أغوار ظاهرة تفشي العنف المسلَّح.
مجزرة مروِّعة أخرى ذهب ضحيتها طلبة مدرسة ابتدائية، في ولاية تكساس، استثارت ردود أفعال بليغة كلامياً، كما هو متوقَّع، وتكرارَ دعوات سابقة إلى ضرورة تشديد قيود اقتناء السلاح، لم تُجْدِ نفعاً حتى الآن، وتصريحاً للرئيس بايدن بالكاد لامس عمق المسألة، قائلاً: "أتوجّه بطلب إلى الأمة بالصلاة من أجل أرواح الضحايا. لقد شهدتُ أكثر من 900 حادثة إطلاق نار على طلبة المدارس منذ 10 أعوام خلت"؛ أي خلال فترة خدمته الرسمية نائباً لرئيس الولايات المتحدة، مشيراً إلى فشل الهيئات الحكومية الأميركية في "احتواء" تداعيات انتشار السلاح الناري، ناهيك بإيجاد حلول مُرضية (بيان البيت الأبيض، الـ24 من أيار/مايو الحالي).
تتباين التحليلات الرسمية والعلمية الأميركية في سبر أغوار ظاهرة تفشي العنف المسلَّح، وخصوصاً في العقد الأخير من القرن الحالي. ودوافع اقتناء الأسلحة النارية، بصورة عامة، هي نتيجة معالجة الفرد لمصادر "الخوف والكبت والحقد" بسبب الفوارق الاجتماعية والاقتصادية. وفضلت هذه التحليلات التركيز على محور معالجتها التقليدي، الذي يستعيد مطلب "سن قوانين متشددة" لتراخيص اقتناء السلاح، من دون المساس بالنص والروح لـ"مادة التعديل الدستورية الثانية"، التي تجيز حمل السلاح، وكذلك ظاهرة ارتفاع معدلات العنف الأُسري، ليشمل أغلبية القطاعات الاجتماعية.
في المجمل، تتفادى هذه التحليلات الولوج إلى عمق البنى السياسية والثقافية في النظام الرأسمالي الأميركي، إذ شكّل العنف المسلح ركيزة نشأته وضمان استمراريته، وخصوصاً بشأن ما يؤمن به قطاع واسع من الشعب حول "فرادته"، وبلوغه مرحلة "ازدهار الحلم الأميركي"، وحصرية امتيازاته ومزاياه الاقتصادية في شريحة ضيقة من السلم الاجتماعي، أو معالجة ظاهرة العنصرية المزمنة في بنى الكيان السياسي منذ تأسيسه.
استعادت مراكز الأبحاث ووسائل الإعلام، المرئية والمقروءة والمسموعة، بيانات توضّح ما آلت إليه ظاهرة تفشي إطلاق النار داخل مباني المدارس، وخصوصاً الابتدائية، وإثارة "بعض" التساؤلات المشروعة بشأن تباين المخصصات المالية الضخمة لأجهزة الشرطة ومردود سوء أدائها، بل الإفراط في قسوتها، في كل مرة.
وفي التفاصيل، جاءت المجزرة الأخيرة في المرتبة الـ"137 ضد المدارس للعام الجاري، بينما شهد العام الماضي 249 حادثة إطلاق نار في المدارس، الأمر الذي شكّل أسوأ عام على الإطلاق" (تحقيق أجرته شبكة "البث العام – بي بي أس"، الـ25 من أيار/مايو 2022).
البيانات الرسمية الصادمة أفرج عنها "مكتب التحقيقات الفيدرالي – أف بي آي" عام 2020، مشيراً إلى ارتفاع معدلات شراء السلاح إلى "40 مليون قطعة من جانب مواطنين أميركيين، منها نحو 40% لمستخدمين جدد"؛ أي ما يعادل أكثر من 5 ملايين مواطن. وأضاف المكتب أن "نحو 33% من المشترين هم من النساء، وعادت بعضهن إلى شراء قطعة سلاح أخرى في عام 2021 بنسبة 23%، إذ بلغت حصتهن من مجمل حَمَلة السلاح أكثر من 42%".
وأوضحت دراسة حديثة أن نحو "70% من حوادث إطلاق النار في عموم الولايات المتحدة تعود جذورها إلى العنف الأُسَري"، مشيرة إلى أن الشابّ في مجزرة المدرسة الابتدائية أطلق النار على جدته قبل توجهه إلى مبنى المدرسة في مدينة يوفالدي في ولاية تكساس (دراسة صادرة عن جامعة "جونز هوبكينز"، الـ27 من أيار/مايو 2022).
واستطردت الدراسة بأن "نحو نصف حوادث العنف الأُسري لا يتم إبلاغ أجهزة الشرطة بشأنه"، وأوضحت بعض دوافعها لاحقاً، ومردها أن الضحايا لا يثقون بجدية الأجهزة الأمنية، وخصوصاً حينما تتعلق المسألة بالمرأة، وهو ما يشير أيضاً إلى استشراء ظاهرة "كراهية النساء". ودلّت بيانات الأجهزة الرسمية، هيئة إحصاءات العدالة، على انخفاض معدل حوادث العنف الأُسري المبلّغ بشأنها "في عام 2019 مقارنة بحوادث عام 2010" (بيانات الهيئة Bureau of Justice Statistics، 5 تشرين الأول/أكتوبر 2021).
مع كل ما تقدَّم، أضاف تحقيق لصحيفة "نيويورك تايمز" بُعداً خطيراً في مظاهر إطلاق النار، ألا وهو "ارتفاع حوادث غضب سائقي السيارات في الطرقات العامة، التي لا تتوافر عليها كاميرات مراقبة، منها الإبلاغ بشأن عشرات حوادث إطلاق النار في ولاية تكساس وحدها خلال فترة زيادة شراء الأسلحة، واكبها تصاعد معدلات توتر بين قطاعات الشعب" من المستقبل.
وأضافت أن جهاز شرطة مدينة دالاس، في ولاية تكساس، سجّل "مقتل 11 شخصاً، وجرح 45 آخرين، في العام الماضي، بينما سجّلت شرطة مدينة أوستن 160 حالة إشهار سلاح أو إطلاق النار من جانب سائقي السيارات". وبلغ نصيب ولاية تكساس من حوادث إطلاق النار على الطرقات العامة "نحو 25% من المجموع العام في عام 2021، على نحو أسفر عن مقتل 33 فرداً" (يومية "نيويورك تايمز"، الـ12 من نيسان/أبريل 2022).
سبل المعالجة
أدّى تعدّد دوافع حوادث الأسلحة النارية إلى شبه إجماع على تَناوُل مختلف المؤسسات لطرائق التصدي لإطلاق النار وسبل معالجتها، أبرزها ما أقدمت عليه يومية "نيويورك تايمز"، بتاريخ الـ21 من نيسان/أبريل 2022، استناداً إلى مروحة واسعة من مساهمة اختصاصيين وعلماء نفس وعلماء اجتماع، وفحواه أن "تفسير" الظاهرة يكمن في 3 نواحٍ، ليبني عليها الطاقم السياسي حلولاً موازية.
الأولى، مناخ اضطراب الحياة اليومية في المجتمع نتيجة الإغلاق المتواصل لمواجهة جائحة "كورونا"، من ضمنها برامج الخدمات الاجتماعية "التي في استطاعتها "ترويض الجريمة والعنف"، وما أسفرت عنه من ارتفاع معدلات شراء الأسلحة النارية.
الثانية، فقدان شرائح المجتمع الثقة بالمؤسسات الرسمية، وواكبه اتساع الهوّتين الاجتماعية والاقتصادية، الأمر الذي أدّى إلى التعبير "العنفي أحياناً" عن منسوب الغضب المكبوت.
الثالثة، عسكرة أجهزة الشرطة في مختلف المقاطعات الأميركية، والتي يبلغ تعدادها أكثر من 2000 جهاز، والإفراط في قسوة تعاملها مع حوادث "عادية" لا تستدعي استخدام السلاح كخيار أول، فضلاً عن زيادة ملحوظة في الاعتقالات الجماعية، واقتياد أعداد كبيرة من الشبّان إلى السجون والمعتقلات، التي أضحت مصدراً للرزق لفئة ضيقة من أرباب الأعمال "بتواطؤ بيّن من سلك القضاء".
عند النظر في عامل نفوذ شركات صناعات الأسلحة على صنّاع القرار، في المستويين المحلي والفيدرالي، والأخذ في الاعتبار المردود المالي عليها، يقترب المرء من ملامسة ما تنطوي عليه سياسة "الباب الدوّار"، لمصالح متبادلة، بين السياسيين ورأس المال، عبر آلية "اللوبيات"، وخصوصاً لوبي الأسلحة النارية ممثلاً في "مجموعة البنادق الوطنية - NRA".
بلغ حجم صادرات الأسلحة الأميركية 138 مليار دولار، في عام 2021. تلقّى الساسة الأميركيون نحو 172 مليون دولار، لعقدين من الزمن، من أجل المصادقة على تشريعات وقوانين لمصلحة تلك الشركات، ووفّرت أيضاً نحو 155 مليوناً في العقد الماضي لدعم "مرشحّين بعينهم" في حملات انتخابية متعددة (بحسب بيانات منظمة "أوبن سيكريتس Open Secrets").
من ناحية أخرى، في محاولة لسبر أغوار العنف المسلح، أشارت دراسة لمعهد "بروكينغز" إلى ارتفاع أعداد "المجموعات اليمينية المسلحة، والتي تشكل تهديداً كبيراً للنظام الديموقراطي الأميركي وأحكام القانون أكثر من أي مجموعة للجريمة المنظمة"، عمادها "العنصريون البيض المعادون للهجرة" (معهد "بروكينغز"، الـ21 من كانون الثاني/يناير 2021).
يستطيع المرء الاستنتاج، من دون عناء، بعد عرض عدد من الدراسات والأبحاث السالفة الذكر، أن المجتمع الأميركي اليوم أضحى عاجزاً عن "قبول الآخرين"، اتساقاً مع ارتفاع معدلات الهجرة وتقلص الفرص الاقتصادية وتدني برامج الرعاية الاجتماعية والصحية، وتفشي ظاهرة العصابات المسلحة والمنظمة، تحت سمع الأجهزة الأمنية الرسمية وبصرها.
ذريعة "مادة التعديل الثانية"، التي يتسلح بها أنصار حمل الأسلحة النارية، لم تعد ذات قيمة في العصر الحديث. وتجدر الإشارة إلى تعليق رئيس المحكمة العليا الفيدرالية، ووران بيرغر، قبل نحو 31 عاماً، قائلاً إن الزعم بشأن تخويل المادة الثانية الحرية الفردية لحمل السلاح هي "إحدى أكبر منصات الاحتيال".
وتراجعت المحكمة العليا عن قراراتها وتوجهاتها السابقة، عقب تعديل موازين القوى لمصلحة التيار اليميني المتشدد، مجددة تفسيرها السابق لـ "حق الفرد في اقتناء السلاح"، في قضية حازت اهتماماً كبيراً في عام 2008، واستندت إليه مجالس الولايات المحلية للسماح بحمل السلاح في الأماكن العامة، من دون التقيد بالحصول على ترخيص مسبَّق بذلك.
حوادث إطلاق النار على المدنيين العزّل ظاهرة، منبعها ثقافة مجتمع أميركي يحابي الظواهر العسكرية، ويتم ترويجها عبر منتوجات هوليوود المتعددة الأهداف والشرائح الاجتماعية، وتُعْلي مكانة الخدمة العسكرية والخدمة في الأجهزة الأمنية، بحيث يصبح العنف المسلّح لازمة ضرورية لسياسات تطبَّق في كل مناحي الحياة اليومية.
أمّا المعالجة الجادة واستباط الحلول، من جانب الحزبين الرئيسين، الديموقراطي والجمهوري، فسرعان ما يتراجع زخمها بتواطؤ مدروس من المنظومة الإعلامية المتكاملة، المقروءة والمرئية، لتعود الحياة اليومية إلى سابق عهدها، وخصوصاً في دوامة إشغال الشعب، في كل قطاعاته، بانتخابات تتجدد مرة كل سنتين، بحيث لا تتوافر فرصة حقيقية لبناء رأي عام ضاغط ومؤثّر في صُنّاع القرار.