ألم السودان لا ينتهي إلا بتنحّي البرهان
يبقى تمسّك العسكر بالسلطة في السودان مُريباً وباعثاً على الشك، إذ إنهم لا يريدون تسليمها بأيّ حال من الأحوال.
استقبل السّودان العام الجديد بالآلام والأحزان، بعد مقتل 5 أشخاص إثر التظاهرات العنيفة التي جابت شوارع البلاد، والتي تنادي كلّها بتنحّي البرهان واستلام المدنيين السّلطة، لكن ما لا يفهمه العسكر هو لغة المدنيين الَّذين يطالبون بحكومة مدنية تدير شؤونهم، ولا شأن للعسكر فيها، لا من قريب ولا من بعيد.
ويبقى تمسّك العسكر بالسلطة في السودان مُريباً وباعثاً على الشك، إذ إنهم لا يريدون تسليمها بأيّ حال من الأحوال، رغم علمهم مسبقاً بأنَّ الشعب السوداني لا يسلم بأيِّ قرار يمكن أن يتخذه البرهان أو غيره في مجلس السيادة.
وقد عانى السودان الأمرّين في الفترة الأخيرة، حتى في عهد الرئيس المعزول عمر البشير، إذ تعرض للتقسيم بناءً على نظرية المؤامرة التي أحدثتها الصهيونية من خلال بروتوكولاتها التي أصدرتها قبل عقود من الزمن، فقد كان السودان مستهدفاً من العصابة الصهيونية التي ذكرته بالاسم في كتابها "بروتوكولات حكماء صُهيون"، إلى جانب العراق والسعودية، وظلَّ يعاني من الحرب الأهلية التي أفقدته توازنه وعمّقت جُرحه، ليبقى في دائرة الألم إلى إشعار آخر.
وبينما كان السودانيون يطمحون إلى الأفضل بعد ثورتهم التي أطاحت الرئيس عمر البشير في العام 2019م، تفاجأوا بالعسكر من جديد يمسكون بتلابيب الحكم ويرفضون تسليمه، رغم أنهم وعدوا الشعب السوداني بأنهم سيعملون على تنظيم انتخابات ديمقراطية لتشكيل حكومة مدنية، لكنّهم ومنذ ذاك العام يماطلون ويراوغون، وما زال الشعب يطالب إلى اليوم بحقه المشروع في الحكم المدني الخالص من دون إشراك العسكر في أي جانب من جوانبه.
هذا الحكم الذي يريده السودانيون هو حكم مدني صرف، ويبقى الجيش في السودان هو حامي البلاد من أيّ غزو خارجي أو تخريب داخلي، ولا شأن له بالسياسة، إذ إنَّ السياسة لها رجالها المتخصصون والمختصّون في شأنها.
يبدو أنَّ مجلس السيادة العسكري لم يفهم هذه اللغة بعدُ، ويحاول في كل مرة أن يُلهي الشعب عن هدفه الأساس، فتندفع الجموع مرة بعد مرة نحو القصر الجمهوري في الخرطوم للتأثير في مجلس السيادة حتى يسلم السلطة اليوم قبل الغد.
وتظلّ معاناة السودانيين قائمة ما دام البرهان على رأس السّلطة في البلاد، وما دام حميدتي يقتل المتظاهرين كلّما خرجوا إلى الشارع ليعبروا عن رأيهم ورفضهم القاطع لما يحصل في البلاد، فقد وصل عدد ضحايا الشرطة السودانية منذ أحداث 25 تشرين الأول/أكتوبر إلى أكثر من 50 شخصاً، وهي حصيلة ثقيلة على الجيش السوداني الذي كان من المفروض أن ينأى بنفسه عن الصراع الداخلي مع الشعب، ليكون إلى جانبه ويسهر على أمنه ويحميه من أي تدخل أجنبي.
ويبدو أنَّ تمسك البرهان بالسلطة وإصراره على البقاء في القمّة يحمل تكهّنات عدة، وهو يعود إلى خوفه من المحاسبة في حال ترك السلطة اليوم، في ظلِّ الغضب الشعبي المتأجج والمتزايد عليه، والاحتقان الشديد الذي يسود البلاد اليوم، وعدم حدوث استقرار سياسي واقتصادي، وسقوط المزيد من الضحايا في التظاهرات المناهضة له، وتعمّده إهانة السودانيين من خلال ما يفرضه من قيودٍ على التواصل الاجتماعي. وهكذا، تبدو الصورة قاتمة اليوم في السودان.
ولعلَّ أبرز ما يتوجّس منه البرهان خِيفة ويسبّب له أرقاً، ما قام به من توقيع اتفاقية التطبيع مع "إسرائيل"، في وقت كان الشعب السوداني، ولا يزال، وسيبقى يرفضها جملةً وتفصيلاً، لأن رفضها من صميم العقيدة الإسلامية والقومية العربية اللتين ترفضان التعاون مع "إسرائيل" بأيِّ شكل من الأشكال، وتحت أيّ مسمى من المسميات، ليبقى السودان شريفاً في تاريخه، منزّهاً من أي تهمة عالقة تربطه بالعدو الصهيوني الذي تمادى في قتل الأبرياء في فلسطين.
على الأرجح، سيبقى السّودان يتألّم إذا بقي البرهان في السلطة، ولكن يبدو أنَّ الشّعب السوداني مصرّ على التغيير، ولا يقبل المساومة من العسكر، وسيظل يناضل من أجل التحرير، ولو خسر ضحايا في سبيل أن ينال مبتغاه ويحقّق هدفه المنشود من تحركاته المكثفة، فمن سينتصر في النهاية؟ الشعب أم العسكر؟ أو ستظل هذه الحلقة قائمة وتتكرر بين الفينة والأخرى حتى يستسلم أحد الطرفين ويترك الأمر طواعية؟
إلى متى سيبقى السّودان رهين العسكر؟ ومتى سينال حريته؟ ومتى سيستطيع أن يعيش ديمقراطيته؟ ومتى سيشعر بأنَّه بلد مستقل يرفض الانصياع والتبعية والخضوع لـ"إسرائيل"؟