أكثر من 100 يوم على حكومة السوداني.. أي فرص للنجاح؟
لا يمكن القطع بإن النجاحات المتحققة لحكومة السوداني خلال المئة يوم الأولى، ستمتد إلى المرحلة أو المراحل المقبلة، بالقدر والوتيرة والزخم نفسه، إلا إذا حافظت العوامل المساعدة على تحقيق تلك النجاحات على زخمها وديمومتها
ربما لا تكفي فترة 100 يوم لتقييم عمل حكومة ما، تقييماً حقيقياً وتفصيلياً وموضوعياً، بل إنها يمكن أن تكون بمثابة مؤشر إجمالي عام يحدّد ويشخّص المسارات العامة لها، من حيث الإيجابيات والسلبيات المتبلورة.
وإذا كان هذا المعيار يصدق على الحكومات التي تتشكل وتعمل وتتحرك في بيئات سياسية واجتماعية وأمنية واقتصادية مستقرة، بعيداً عن الضغوطات الكبيرة والاستحقاقات الكثيرة، والمشاكل العميقة. فإنه يكون أوجب بالنسبة للحكومات التي تتشكل وتعمل وتتحرك في ظل ظروف وأوضاع استثنائية وحرجة وضاغطة، كالحكومة العراقية الجديدة برئاسة محمد شياع السوداني، التي انطلقت بعملها بعدما نالت ثقة البرلمان في السابع والعشرين من شهر تشرين الأول-أكتوبر الماضي.
ومعروف أن هذه الحكومة ولدت بعد مخاضات عسيرة وطويلة، تعود جذورها الأولى إلى بدايات عام 2021، حينما انطلق الحراك السياسي العام لإجراء انتخابات برلمانية مبكرة كجزء من عملية الإصلاح وتصحيح الأخطاء ومعالجة السلبيات المتراكمة.
وما بين انطلاق ذلك الحراك وولادة حكومة السوداني، حفل المشهد العراقي بالكثير من الأحداث والوقائع والتفاعلات، التي كادت أن تلقي بالعراق إلى الهاوية، لأن انتخابات العاشر من تشرين الأول-أكتوبر 2021، بدلاً من أن توجد انفراجات للعقد والإشكاليات التي راحت تتشكّل وتتضخّم وتتسع خلال العام الثاني من حكومة رئيس الوزراء الأسبق عادل عبد المهدي (2018-2020)، والتي استقالت تحت وطأة ضغوطات الشارع، مروراً بحكومة مصطفى الكاظمي.
فإنها -أي الانتخابات-أفضت بسبب نتائجها ومخرجاتها الجدلية، وكمّ الملاحظات والمؤاخذات عليها، ناهيك عن الاستقطابات الحادة التي أفرزتها ارتباطاً بالنتائج، ولا سيما بين قوى المكوّن الشيعي، إلى مزيد من التعقيد والتأزيم، الذي وصل إلى تعطيل البرلمان بعد السيطرة على مبناه في داخل المنطقة الخضراء والاعتصام فيه من قبل اتباع التيار الصدري، ومن ثم تهديد السلطة التشريعية، وإبقاء حكومة تصريف الأعمال تتخبّط في مجمل أداءاتها وتراهن على بقاء الأزمة وتصاعد وتائرها لتبقى هي أطول فترة ممكنة، أو تحظى بولاية جديدة، حينما تصل كل الحلول والخيارات المطروحة من قبل فرقاء التيار الصدري والإطار التنسيقي إلى طريق مسدود.
ولأنّ المشهد السياسي العراقي حافل بالمفاجآت والأحداث الدراماتيكية، والتحوّلات والمتغيرات الكبرى، لم يكن غريباً على ضوء ذلك، أن ينسحب الطرف الذي حصل على أكبر عدد من مقاعد البرلمان، وهو التيار الصدري، ويترك زمام الأمور لغريمه الإطار التنسيقي، ولتؤول رئاسة الحكومة لمرشحه محمد شياع السوداني.
جاء السوداني للمنصب التنفيذي الأول ببرنامج حكومي شامل وناضج وفيه أولويات واضحة، تعكس إلى حد كبير مقتضيات الواقع ومتطلباته. في الوقت ذاته، جاء وهو معزز بثقل برلماني كبير، ودعم وإجماع سياسي واسع من قبل مختلف المكونات، فضلاً عن غياب وانكفاء المعارضة عن الميدانين السياسي والشعبي، وتأكيدها إعطاء فرصة للحكومة الجديدة لكي تثبت مدى كفاءاتها وقدرتها وجديتها في تنفيذ البرنامج الحكومي الخاص بها، وبالتالي الإيفاء بالوعود والعهود التي قطعتها على نفسها.
بعبارة أخرى كان رئيس الوزراء العراقي الجديد وكابينته الوزارية في مواجهة جملة من التحديات الكبيرة والاستحقاقات الثقيلة، إلى جانب حزمة من عوامل الدعم والإسناد والتحفيز.
ومنذ البداية حدد السوداني، العارف بكل خبايا الأمور في منظومات الدولة ومفاصلها المختلفة، بحكم المناصب والمواقع التنفيذية والتشريعية التي تصدى لها وشغلها طيلة ثمانية عشر عاماً، حدد منذ البداية أولوياته المتمثلة بمحاربة الفساد، وتحسين الخدمات في مختلف المجالات والمستويات، والنهوض بالقطاعات الزراعية والصناعية المختلفة، وتهيئة الظروف المناسبة لإجراء الانتخابات البرلمانية والمحلية في أسرع وقت ممكن.
ولعل ما اختلف فيه السوداني عن رؤساء الحكومات الذين سبقوه في المنصب، نزوله الميداني المبكر والسريع إلى الشارع، ليس هو فحسب، بل حتى أغلب وزراء حكومته، واتخاذه خطوات وإجراءات عملية لمعالجة السلبيات ومكامن القصور والتقصير في قطاعات الصحة والتربية والتعليم والرعاية الاجتماعية والإسكان والزراعة والصناعة والاستثمار، وفتحه لملفات الفساد في المستويات العليا، عبر تفعيل عمل هيئة النزاهة وإخراجها من قوالب الرتابة والروتين وبيروقراطية وفساد المؤسسات المختلفة.
ورغم أنه لا توجد استطلاعات أو استبيانات رأي معلنة حتى الآن توضح وتحدّد بالأرقام مستوى الأداء الحكومي خلال المئة يوم الأولى من عمر الحكومة، إلا أن مجمل المؤشرات والمعطيات تؤكد أن الأمور تسير وتتحرّك بالاتجاهات الإيجابية الصحيحة، وهناك حالة رضا وقبول وارتياح ملموسة لدى مختلف الأوساط والمحافل السياسية والنخبوية، وكذلك الفئات والشرائح الاجتماعية المختلفة، ولا سيما المعدمة منها والفقيرة، إزاء مجمل ما قامت به الحكومة في غضون الفترة الزمنية القصيرة الماضية.
وذلك من قبيل التوجّه إلى المناطق المحرومة وإجراء عمليات المسح الميداني فيها لشمول أكبر عدد من أفرادها بشبكة الرعاية الاجتماعية، واستعادة مبالغ مالية كبيرة كانت قد تبدّدت ونهبت من جراء سوء الإدارة والفساد وغياب التخطيط وضعف الرقابة، وإحالة العديد من المتورطين، ومنهم أصحاب درجات خاصة، سابقاً أو حالياً، إلى القضاء، وتطوير وتحديث المؤسسات الصحية، وتنشيط قطاعي الزراعة والثروة الحيوانية، عبر تقديم التسهيلات والمحفزات للمزارعين والمستثمرين في هذين القطاعين، فضلاً عن الشروع بحملات واسعة لتطوير وإصلاح قطاع الطرق والمواصلات، وغيرها من الجوانب والمجالات.
إلى جانب ذلك كله، فإن الحراك السياسي والدبلوماسي على المحيط الإقليمي والفضاء الدولي، بدا محسوباً ومدروساً بعناية ومتساوقاً مع أولويات ومفردات البرنامج الحكومي، بعيداً عن الاستعراضات الإعلامية والتسويق السياسي السطحي، وقد تبدّى ذلك واضحاً في الزيارات التي قام بها السوداني لكل من الكويت والسعودية وإيران والأردن والإمارات وقطر وألمانيا وفرنسا.
وبما أن السوداني هو مرشح الإطار التنسيقي، فمن الطبيعي جداً أن يحرص الأخير على إنجاح مهمته، من خلال المتابعة والتنسيق والتواصل الدوري، عبر الاحتمالات واللقاءات المستمرة بين قادة قوى الإطار والسوداني، والتي يراد منها الوقوف على كل التفاصيل والجزئيات، وتقييم الخطوات والإجراءات المتخذة، والعمل على تذليل المصاعب والمعوقات، وتعديل المسارات الخاطئة.
ورغم وجود تباين في مواقف ورؤى قوى الإطار بشأن بعض تفاصيل أداء حكومة السوداني وقراراتها، إلا أن ذلك لم يمنع من الحفاظ على وحدة الموقف الكلي العام تجاهها. وكان ذلك معزّزاً بمواقف كردية وسنية داعمة ومساندة للحكومة، لم تعرقلها الخلافات والتقاطعات والصراعات الداخلية، التي ارتأى السوداني الدخول على خطها بهدوء من أجل احتوائها وتطويقها حتى لا تنعكس على المشهد العام للبلاد وتربكه، في الوقت الذي يتجه شيئاً فشيئاً إلى الاستقرار النسبي الجيد.
وثمة أمر مهم جداً، لا بدّ من الإشارة إليه هنا، ألا وهو أن هناك مؤشرات تذهب إلى أن المرجعية الدينية في النجف الأشرف، متمثلة بآية الله العظمى السيد علي السيستاني، التي عبرت في أوقات سابقة عن عدم رضاها واستيائها من عموم الطبقة السياسية الحاكمة، لديها تقييم ورؤية وانطباعات أولية إيجابية حيال أداء السوداني وحكومته، وهي-بحسب أوساط سياسية مقرّبة من رئاسة الحكومة-أوصلت رسائل مفادها، ضرورة تقديم كل أشكال وأدوات الدعم للحكومة في إجراءاتها، وتشجيعها للاستمرار بذلك بوتيرة متصاعدة، وتجنب وضع المعوقات والعراقيل أمامها.
ويبدو أن الزيارة التي قام بها السيد محمد رضا السيستاني نجل المرجع علي السيستاني لزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر في مقر إقامته بمنطقة الحنانة في النجف الأشرف مطلع شهر شباط-فبراير الجاري، جاءت في سياق توفير الأجواء والظروف الداعمة لحكومة السوداني، إذ أن الصدر، كان قد ألمح إلى أنه سيمنح حكومة السوداني فرصة، قبل أن يبادر إلى التحرك واتخاذ أي خطوات تجاهها.
وبالفعل فإن زعيم التيار الصدري، وإن لم يفصح عن تأييده لأداء حكومة السوداني، إلا أن هناك من يقول إنه مؤيّد وراض عنها بنسبة جيدة، وما يعزّز ذلك، أنه لم يبدِ أي دعم وتشجيع لدعوات التظاهر التي أطلقت قبل فترة وجيزة من قبل بعض الأطراف والجماعات.
ويرجح أن يكون من بين أهداف الزيارة غير المتوقّعة من قبل محمد رضا السيستاني للصدر، هو ضمان عدم حدوث أي تصعيد ضد الحكومة في هذه المرحلة، وترقّب ومراقبة مسيرة أدائها وانتظار المزيد من النتائج والمعطيات لكي يكون التقييم موضوعياً ومنصفاً، خصوصاً مع المؤشرات الإيجابية الأولية لها.
كذلك فإن التعاطي الإيجابي الخارجي-إقليمياً ودولياً-عزّز المواقف والتوجهات الإيجابية الداخلية، ومضافاً إلى تصريحات العديد من الساسة والمسؤولين الغربيين-وتحديداً الأوربيين-بشأن التعاون والتنسيق مع الحكومة العراقية الجديدة، فإن الرؤية الإيجابية والملاحظات الموضوعية للمبعوثة الأممية جينين بسخارت في إحاطتها الدورية الأخيرة عن الوضع العراقي، التي قدّمتها إلى مجلس الأمن الدولي مطلع الشهر الجاري، إذ أشادت بخطوات السوداني في مكافحة الفساد وإصلاح المؤسسات، وحذرت من مخاطر الانقسام السياسي في إقليم كردستان بشمال العراق. مثلت إشارة مهمة مقارنة بما كانت تتحدث به وتطرحه سابقاً.
بيد أنه في كل الأحوال، لا يمكن القطع بإن النجاحات المتحققة لحكومة السوداني خلال المئة يوم الأولى، ستمتد إلى المرحلة أو المراحل المقبلة، بالقدر والوتيرة والزخم نفسه، إلا إذا حافظت العوامل المساعدة على تحقيق تلك النجاحات على زخمها وديمومتها، وأكثر من ذلك، آليات وأدوات التعاطي مع ملفات محورية وحساسة ومهمة.
وذلك من قبيل القضايا الخلافية مع إقليم كردستان، وملف الانتخابات-البرلمانية والمحلية-وملف تعديل الدستور، وملف الوجود الأميركي وهيمنة واشنطن على المفاصل الأساسية للدولة، كالأمن والمال والاقتصاد، ومدى الاستمرار في مكافحة الفساد وإخراج هذا الملف من دائرة المساومات والترضيات السياسية، وموضوعية ومهنية تقييم أعضاء الحكومة وكبار المسؤولين بعد انتهاء المهلة المحددة، بعيداً عن قوالب المحاصصة ومحدداتها السلبية..
قد تتضح وتتجلى الأمور بالقدر الكافي نهاية هذا العام، ويتضح ويتجلى معها مصير الحكومة وفرص استمرارها ونطاق عمرها الزمني المتوقّع والمفترض.