أسباب ومصير الخلاف المفترض بين واشنطن و "إسرائيل"
الواقع الذي يحكم العلاقة بين الطرفين الأميركي والإسرائيلي مرتبط بشكل أساسي بشخص الرئيس الأميركي الذي يحكم، إنما يفترض القول إن واقع تلك العلاقة كان دائماً محكوماً للتوجه الفكري الذي يحكم السياسة الخارجية الأميركية.
في الفترة الأخيرة، برز ما عُرف بالخلاف الأميركي الإسرائيلي حول مسار ونتائج العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة كأحد أهم المتغيرات التي افترض الباحثون أنها ستؤدي إلى تغيير جوهري في مسار العلاقات المستقبلية بين الطرفين من دون أن يهملوا ما يمكن لهذا الخلاف أن يغير في استراتيجية الكيان الإسرائيلي في غزة.
وفي هذا الإطار، يجب الإشارة إلى أن بداية الخلاف بين الطرفين لا تعود إلى مرحلة ما بعد طوفان الأقصى وفشل الكيان في تحقيق الأهداف ضمن المهلة التي حددتها إدارة الرئيس بايدن في نهاية كانون الثاني الماضي، إنما تعود إلى مرحلة سابقة، حين انقلب رئيس حكومة الكيان على المحكمة العليا الإسرائيلية، أي ما عُرف لاحقاً بأزمة التعديلات القضائية التي سعى إليها اليمين المتطرف المتمثل في الحكومة ببن غفير وسموتريتش.
وبناء عليه، في إطار تحليل كلا أزمتين، أي الفشل الإسرائيلي في تحقيق الأهداف ضمن المهلة المحددة الأميركية وقضية التعديلات القضائية، يصبح من الضروري تحليل أثر ما تم اعتباره انتكاسة في العلاقة الحالية في واقع الدعم الأميركي للكيان، وبالتالي ضرورة تقدير مدى تحول هذه العراضة الإعلامية إلى حقيقة ثابتة ومؤثرة في طبيعة الروابط التاريخية بين الحليفين الاستراتيجيين.
يفترض الإشارة في هذا الإطار إلى أن العلاقة بين الطرفين شهدت العديد من التعقيدات، أقله منذ تولي أوباما رئاسة الولايات المتحدة وتقديمه مقاربة مختلفة للوجود الأميركي في الشرق الأوسط، إذ تعتبر دوائر القرار الإسرائيلية أن التردد الأميركي سمح بتمدد نفوذ الجمهورية الإسلامية في هذا البلد.
بطبيعة الحال، لا يمكن القول إن الواقع الذي يحكم العلاقة بين الطرفين الأميركي والإسرائيلي مرتبط بشكل أساسي بشخص الرئيس الأميركي الذي يحكم، إنما يفترض القول إن واقع تلك العلاقة كان دائماً محكوماً للتوجه الفكري الذي يحكم السياسة الخارجية الأميركية.
وبالتالي ما كان مناسباً للكيان الإسرائيلي في فترة هيمنة المحافظين الجدد لجهة استخدام القوة الخشنة في الشرق الأوسط من أجل إرساء واقع يساعد في الحفاظ على الأحادية الأميركية في بداية القرن الحادي والعشرين تحول إلى كابوس مع تبني باراك أوباما خطاباً منفتحاً على القضية الفلسطينية لناحية تبني مقاربة تفترض اعتبار أن قيام دولة فلسطينية يخدم مصلحة الكيان الإسرائيلي بالتوازي مع فتحه باب التفاوض مع الجمهورية الإسلامية حول برنامجها النووي مع ما يعنيه هذا التوجه من تخلٍ عن خيار العمل العسكري في مواجهتها.
من ناحية أخرى، لا يمكن القول إنَّ هذا التحول الذي قاده باراك أوباما واستكمله دونالد ترامب وجو بايدن قد انعكس تغيراً في واقع الدعم الأميركي اللامحدود للكيان الإسرائيلي، إذ تجمع كل الطبقة السياسية الأميركية من ديمقراطيين وجمهوريين على اعتبار الكيان الإسرائيلي بمنزلة ركيزة استراتيجية لا يمكن التخلي عنها أو البحث عن بديل لها.
وبالتالي، لم ينعكس القرار الأميركي بتغيير الأسس الإستراتيجية لسياسات الولايات المتحدة في المنطقة تغييراً في نوع العلاقة أو مستوى الدعم الذي يُقدم للكيان الإسرائيلي؛ فبعدما كان الرئيس الأسبق باراك أوباما قد وصف عام 2012 الدعم الأميركي للكيان الإسرائيلي بالمقدس، وتحدث عن ضرورة مساعدته في الحفاظ على تفوقه العسكري، وبعدما اعترف الرئيس السابق دونالد ترامب عام 2017 بالقدس عاصمة لإسرائيل، ثم اعترف بعدها بالسيادة الإسرائيلية على الجولان، أظهر الرئيس الحالي جون بايدن تضامناً مطلقاً مع الكيان بعد طوفان الأقصى، وأعلن اعترافه المطلق بحقه في مواجهة ما اعتبره تهديدات وجودية بكل الوسائل التي تراها حكومة الكيان مناسبة، متخطياً بذلك إشكالية الخلاف بينه وبين نتنياهو، ومعللاً موقفه بأن هذا الخلاف لا يجب أن يُفهم مطلقاً على أنه خلاف مع دولة الكيان.
وبناء عليه، تُطرح ضرورة قراءة الخلاف المفترض الذي طغى على تصريحات الإدارة الأميركية وبعض أطراف حكومة الكيان بطريقة مختلفة عن أي قراءة تقليدية تحاول إظهار هذا الخلاف كمؤثر حاسم في شكل العلاقة بينهما؛ فمنذ اللحظة الأولى لطوفان الأقصى، ظهر واضحاً حجم التطابق بين الأهداف الإسرائيلية والأهداف الأميركية لناحية القضاء على المقاومة الفلسطينية في غزة وتحرير الرهائن وإلغاء أي تهديد مستقبلي للكيان على الجبهات الأخرى. من هنا، يمكن الحديث عن نقطتين أساسيتين مسببتين لهذا الخلاف المفترض، مع الإشارة إلى أن أياً منهما لا يشكل سبباً مقنعاً يمكن أن يؤدي إلى تغيير في نمط العلاقة بين الطرفين.
تتمحور النقطة الأولى حول فشل الكيان الإسرائيلي في تحقيق الأهداف المعلنة من الحرب بسرعة تقلل من الأضرار الجانبية التي قد تلحق بالولايات المتحدة، فصمود المقاومة في غزة وإصرار محور المقاومة على فتح جبهات الإسناد بما أدى إلى خوف من تحول الحرب في غزة إلى حرب شاملة، وخصوصاً بعد إصرار الجمهورية الإسلامية على الرد مباشرة على استهداف قنصليتها في سوريا وإظهار عدم اكتراثها بالتهديدات الأميركية وضع الإدارة الأميركية أمام مأزق خسارة موقعها المتقدم في المنطقة وعرض استراتيجيتها الهادفة إلى تشكيل محور من الدول الحليفة بالتضامن والتكافل مع الكيان الإسرائيلي للفشل، وبالتالي إمكانية استفادة القوتين الصينية والروسية، إضافة إلى الجمهورية الإسلامية، من هذا الفشل في محاولة أداء دور أكثر قوة وتأثيراً في المنطقة من دون أن ننسى إمكانية أن ينعكس هذا الفشل تردداً على مستوى توجه دول الخليج نحو التطبيع مع الكيان، ولكن أمام تلك التهديدات، يبقى الكيان الإسرائيلي في ظل عدم الثقة بقدرات الدول الحليفة الأخرى واستقرارها الرهان الوحيد المضمون لمواجهة تحديات المرحلة، بما ينفي أي إمكانية لتخلي الولايات المتحدة الأميركية عن الكيان الإسرائيلي في المديين المنظور والبعيد.
أما النقطة الثانية، فتكمن في ما لحق من ضرر بالولايات المتحدة الأميركية على مستوى السمعة نتيجة ظهورها في موقع الداعم لارتكاب جريمة إبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني.
وإذا كانت هذه السمعة قد تضررت على مستوى موقف دول العالم مما يحدث غزة، فإن هذا الضرر امتد إلى الداخل الأميركي، إذ باتت التظاهرات التي تعم الجامعات الأميركية مؤثرة، وباتت تجذب شرائح أخرى في المجتمع الأميركي، مع الإشارة إلى أنها ليست محصورة ضمن إطار عمودي رأسه الحزب الجمهوري الساعي إلى إضعاف بايدن في مواجهة منافسه دونالد ترامب، إنما تنتشر في إطار أفقي يضم جماهير من الحزبين، إضافة إلى تيارات أخرى.
وفي هذا الإطار، يبرز استحقاق الانتخابات الرئاسية كمؤثر في هذا الخلاف المُفترض، إذ ساهم الفشل الإسرائيلي، إضافة إلى عدم التزام نتنياهو بالتوجيهات الأميركية، في إظهار ضعف الرئيس الأميركي وفشله في إدارة هذه الأزمة وعدم قدرته في تحييد المجتمع الأميركي عن تداعياتها.
وإضافة إلى فشل إدارة بايدن في ردع جبهات الإسناد الممتدة من البحر الأحمر إلى العراق وسوريا ولبنان، أصر نتنياهو على معارضة بايدن وانتقاده في كل مناسبة، وأظهر محدودية تأثير الإدارة الأميركية في الكيان، إعلامياً على الأقل، بما انعكس سلباً على حظوظ الرئيس الأميركي في ضمان إعادة انتخابه، وبما جعل الخلاف بين الطرفين خلافاً شخصياً.
وبناء عليه، يمكن التقدير أن طوفان الأقصى وما رشح عنه من خلافات بين الطرفين لن يؤثر في جوهر العلاقة بين الولايات المتحدة والكيان كدولتين، إنما قد يفرض نوعاً من اللااستقرار الذي ستتكفل مرحلة ما بعد العدوان على غزة ونتيجة الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة في معالجته، فالحاجة المتبادلة لكل من الاثنين للآخر معطوفاً على الآفاق الجديدة التي ستفتحها الفترة الرئاسية المقبلة لناحية بقاء بايدن وانعدام القلق الذي يفرضه الخوف من الخسارة أو عودة ترامب ستعيد رسم صورة العلاقة بين الطرفين وتجميلها بما يعيدنا إلى مرحلة صهيونية ترامب المعترف بالقدس كعاصمة للكيان أو إلى مرحلة شبيهة بلحظة زيارة بايدن إلى تل أبيب للتضامن معها في 18 تشرين الأول.