أرجو أن أكون قد أخطأت
حديث دول العالم عن لبنان لا يتجاوز الشفقة والمساعدات الإنسانية لشعبه الجائع بعضه، لا ثقة دولية سوى بمنظمات غير حكومية مشبوهة وخارجية الهوى.. وثروات بحره يتآمر عليها الأقربون والأبعدون، والمصائب تطول..
أعتذر من اللبنانيين ومن كل محبي لبنان، إن نقلت حرقة متابع، ملمّ ومشارك في بعض النقاشات الأساسية التي تجري داخل الأروقة على خط محاولة إنعاش لبنان.
نعم، محاولة إنعاش لبنان لا تعافيه، بكل ما يعني التوصيفان. وهذا إن دل على شيء، فيدل على أن الوضع يتجاوز التوعك والانتكاسة، لأن لبناننا مصاب بمرض خطير جداً، والمريض مرمي في العناية الفائقة من دون مداواة؛ فالعناية معطلة تحتاج إلى من يعينها، رغم معرفة نوعية العلاج.
كان هذا المتابع خارجاً للتو من اجتماع مالي، اقتصادي، برلماني، وجهه متجهم كمن ذبح من الوريد إلى الوريد، ضرب كفّيه وعاجلني: اليوم أيقنت أن لبنان قد انهار، بعدما صارت الشعبوية قاعدة علمية، والتهرب من حمل المسؤولية والمبادرة نهجاً في تركيبة السلطات، والكذب ملح المواقف أمام وسائل الإعلام، والفجور أدوات دفاع بوجه الحقائق.
لماذا اليوم؟ لا أحد يجرؤ على الإمساك بمبضع العملية الجراحية لاستئصال التورم الخبيث الذي أدى إلى الانهيار. وبات المطلوب شخصية تقدّم على طريقة الأمر لي، تدوس على الخوف وتمضي بتصميم واضح على العمل لا الهروب، شخصية شجاعة تقبل حمل تداعيات ألم أي جراحة، وترضى بتحمّل أوجاع مراحل التعافي. المطلوب منقذ صادق لا باحث عن منصب.
وبمعزل عن سرد المطالعات الممجوجة عن أخطاء السياسات الاقتصادية وخطاياها، وسياسة الاستدانة بالعملتين المحلية والصعبة، منذ تسعينيات القرن الماضي، نقدّم بعض المؤشرات في بلد يلهث سكانه وراء رغيف، ولو بلغ ثمنه وقفة مذلة لساعات أمام الأفران، وبكلفة زادت 30 ضعفاً في بعض الأماكن.
بلد تعيش فيه 3 شعوب، إذ يقيم فيه قرابة 4 ملايين لبناني، و 3 ملايين نازح سوري (بحسب تقديرات أحد خبراء الديموغرافية ومعني بلعبة الإحصاء بعد احتساب نسبة الولادات المرتفعة في أوساط النازحين على مدى أكثر من 10 سنوات) و 500 ألف لاجئ فلسطيني، أضف إليهم عشرات ألوف العراقيين الذين يقدمون تباعاً سواء للإقامة الدائمة أو ترانزيت بانتظار حصولهم على تأشيرات الهجرة إلى الخارج.
كل هؤلاء يقاسمون اللبنانيين الخبز والغذاء والدواء والطبابة والماء والكهرباء والمحروقات والطرقات وسائر البنى التحتية... وحتى الهواء.
الموقف مما تقدم، المنطلق فيه ليس عنصرياً، بقدر ما هو إضاءة على التبعات والتداعيات، في ظل الدعم على المواد الأساسية في وقت سابق، وفي ظل أزمة اقتصادية واجتماعية، تضاف إليها اليوم أزمتا النفط والغذاء.
في لبنان اليوم، سلطات ترهلت وحكومة تصريف أعمال بالحدود الدنيا لحركة عامة دنيا، وإدارة هي أداة الدولة التنفيذية مضربة، ومؤسسات عامة مشلولة، ومصالح الناس معطلة، وواردات معدومة، وعملة وطنية انهارت أمام العملات الصعبة كافة، ومرفأ دمّره انفجار صنّف من أقوى 3 انفجارات هزت العالم، فضلاً عن خزينة مفلسة وغارقة في الدين، واستحقاقات مالية وتراكم متأخّرات، من خدمة دين واشتراكات في منظمات دولية وإقليمية غير مسددة، ما يعني خروجاً وخسارة استثمارات أو هبات وتنمية قدرات بشرية، وشبه حصار دولي وعربي وشلل دبلوماسي، وغلاء مستفحل وغياب رقابة، واحتياطات مصرفه المركزي تنفد، وقطاع مصرفي انهار، إلى جانب المودعين الذين سلبت ودائعهم والمؤسسات والقطاعات الكبيرة التي أفلست وأغلقت.
حديث دول العالم عن لبنان لا يتجاوز الشفقة والمساعدات الإنسانية لشعبه الجائع بعضه، لا ثقة دولية سوى بمنظمات غير حكومية مشبوهة وخارجية الهوى، دواء مفقود وجهاز تمريضي هجر العيادات والمستشفيات إلى الخارج، مؤسسات تربوية وشهادات تخسر كل يوم مستوى وتصنيفاً، وثروات بحره يتآمر عليها الأقربون والأبعدون، والمصائب تطول.
الآمال المسطّحة تتلهّف لموسم سياحي "واعد" لا يتعدّى الأشهر الثلاثة صيفاً، آملةً "التعويم"من وجود المصطافين والمغتربين.
وضع في غاية الحرج لا يقود إلا إلى مزيد من الهجرة والنزف، والبطالة وسوء التغذية وتدهور الأوضاع الصحية، وعلّ الأمور المعقدة لا تودي إلى المجاعة.
في لبنان لا وجود لمتفائلين إلا قلة يعوّلون على بروز منقذ أو أكثر يحمل مسؤوليات، ويتبنى خطوات جريئة ومؤلمة في الوقت عينه، تتمثل بإقرار الخطوات الإصلاحية التي يشترطها صندوق النقد الدولي، لاستعادة ثقة المجتمع الدولي، وجلب المساعدات والقروض الاستثمارية، وتصحيح أي اعوجاج في علاقات لبنان مع الخارج، باعتبار أن جزأً أساسياً من استقرار هذا البلد الصغير كانت توفّره هذه الثقة أكثر من أي أمر سواها.
ثم، تبنى على قاعدة هذه الإصلاحات موازنة تحاكي الواقع، و تحمل من الواردات ما يكفي، ما يمكّنها من الإنفاق الاستثماري والمنتج المنشود. فتنتعش القطاعات كافة، ويبدأ التعافي يضخ في شرايينها، و ننمّي ما لدينا من موارد، ونبتدع حلولاً لا أن نكتفي بمد اليد إلى الخارج وننتظر "نعمه"، ولنضع القطار على سكة التعافي لنصل به إلى الخط البحري 23 حيث الثروة المنتظرة بعد ما يقارب السنوات السبع، إذا ما وقع الترسيم البحري اليوم وليس غداً، وما على اللبنانيين إلا الانتظار...
وبالانتظار، يجب أن لا يعدم المؤمنون بقوة لبنان بقوّته، والثقة بمعادلة المسيّرات، وبالمسلّمة التي هزّت "إسرائيل" إلى "ما بعد بعد كاريش".