أبو مازن في عاصمة المقاومة "جنين"؛ تصحيح المسار أم تكرارُ التجرِبة!

"إسرائيل" هي التي سعت لإضعاف السلطة الفلسطينية والمكانة السياسية لرئيسها "أبي مازن"، وأرادت بذلك أن تُحدث فجوة بين السلطة والشعب الفلسطيني.

  • أبو مازن في عاصمة المقاومة
    أبو مازن في عاصمة المقاومة "جنين"؛ تصحيح المسار أم تكرارُ التجرِبة!

لقي طَردُ أهالي مخيم جنين، شمالي الضفة الغربية المُحتلة، قيادات من السلطة الفلسطينية وأعضاءً في اللجنة المركزية في حركة فتح، من جنازة تشييع شهداء العدوان الإسرائيلي الأخير على المخيم، أصداءً واسعة في المجتمع الفلسطيني بين ساخط على هذا الفعل ومتفهمٍ له. وعلى رغم أن الذين انبروا ضد هذا الفعل ركزوا، في ردودهم، على شخصية محمود العالول، من دون سواه ممن شاركوا، بسبب ما يحظى به الرجل من احترامٍ في أوساط كثير من الفلسطينيين، نظراً إلى تاريخه ومواقفه وصورته التي لم تتلوث بتهم الفساد، كما هي حال كثير من القيادات الفلسطينية، فإن المشهد أحرج عدداً من مسؤولي السلطة الفلسطينية، وحركة فتح تحديداً. 

وعلى رغم أن جزءاً مُهماً من المقاومين في المخيم محسوبٌ على فتح أو أبناءُ أشخاص مرتبطين بتنظيمها، فإن هذا لا ينفي غضب أغلبية سكان المخيم من السلطة الفلسطينية والأجهزة الأمنية الفلسطينية، بسبب عجزها عن حماية السكان وترك المستوطنين وجيش الاحتلال الإسرائيلي يعيثون فساداً وقتلاً وتدميراً في البنية التحتية المدنية للمخيم. هذا السلوك في جنين، كما في ترمسعيا في رام الله وغيرها، يُعزز الاعتقاد السائد، ومفاده أن السلطة الفلسطينية منفصلةٌ تماماً عما يحدث على الأرض، وأن الأفضل لها أن تعود إلى الناس وتدعمهم، ليس فقط على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، أو دعم جنين عبر "الإعمار"، وإنما أيضاً في إطار مسايرة المزاج الشعبي العام والحاضن للفعل المقاوم، والرافض لأيّ تَماهٍ مع الاحتلال وأطماعه. 

وبينما تبدو "إسرائيل" والولايات المتحدة قلقتين للغاية بشأن خسارة السلطة الفلسطينية الحُكمَ في جنين، فإنهما تسعيان لمحاولة إعادة السيطرة إليها، أي السلطة، وخصوصاً بعد اقتحام جيش الاحتلال المخيمَ، وفشله الذي قاد إلى نتائج معاكسة للرغبة الإسرائيلية في كسر شوكة المقاومة وتبريد ساحة جنين، إذ توسعت دائرة الاحتضان الشعبي الفلسطيني للفعل المقاوم، وظهرت "إسرائيل" ضعيفة ومهزومة أمام صمود المقاومين والالتفاف الشعبي حولهم. 

تُردد "إسرائيل" أن التعاون والتنسيق الأمنيين الوثيقين بينها وبين السلطة الفلسطينية يهدفان إلى منع دخول حركتي حماس والجهاد الإسلامي من أجل ملء الفراغ الأمني ​​الذي نشأ على الأرض، على نحو يُضعف حكم السلطة الفلسطينية في المنطقة، وخصوصاً مع ازدياد الصراع على خلافة أبي مازن.

وفي هذا السياق، أشار رئيس أركان جيش الاحتلال، أفيف كوخافي، الأسبوع الماضي، إلى ما سمّاه السبب في تصاعد ظاهرة الفعل المسلح في شمالي الضفة الغربية، وهو، بحسب وصفه، فقدان السلطة سيطرتها على منطقتي جنين ونابلس، وتراخي أجهزة أمنها، الأمر الذي خلق "تربة خصبة لنمو الإرهاب" وفق تعبيره، لكنّه، كعادة كل مسؤول إسرائيلي، يتعامى عن الجوانب السياسية والعملية التي تقود إلى إضعاف السلطة الفلسطينية. وهو ما أكده مدير معهد بحوث الأمن القومي الإسرائيلي، تمير هايمن، حين تحدث عن غياب السلطة في جنين من وجهة نظر أمنية بحته، وليس من وجهة نظر اقتصادية ومدنية. فخسارة السلطة الفلسطينية في شمالي الضفة الغربية تتناول التقييم الأمني ​​والتحديات الأمنية فحسب، وهو ما يعني "إسرائيل" حصراً في علاقتها بالسلطة الفلسطينية.

فـ "إسرائيل" هي التي سعت لإضعاف السلطة الفلسطينية والمكانة السياسية لرئيسها "أبي مازن"، وأرادت بذلك أن تُحدث فجوة بين السلطة والشعب الفلسطيني، وأن تُظهرها في عيون الشارع الفلسطيني متحدثاً باسم "إسرائيل" والولايات المتحدة، وديكتاتوريةٌ فاسدة تقمع خصومها السياسيين بالقوة والتعذيب، وذلك كي تبقى أسيرة العلاقة الأمنية بها لتضمن استمرار حُكمها. وربما لهذا السبب أدرك الرئيس أبو مازن أن عليه أن يفعل كل شيء لتجنب الاحتكاك المباشر وغير الضروري بتنظيمات المقاومة في الضفة، في ظل غياب أفق سياسي أو حتى حديث عنه، إذ ليس لديه الحافز على إظهار التصميم المفرط على تعطيل الفعل المقاوم، ما دامت "إسرائيل" لا تتيح له أي بدائل أخرى. وربما إن هذا هو أحد الأسباب التي دفعته إلى زيارة جنين شخصياً، والدفع إلى توجيه الفعل الحكومي المباشر والسريع لدعم سكان مخيم جنين وإعادة تأهيل البُنية التحتية والمنازل التي دمرها الاحتلال في عدوانه الأخير على مخيم جنين.

تدرك "إسرائيل" أن الجيل الفلسطيني الحالي يشعر بأن لا سبيل إلى الخروج من المأزق الذي أدخله فيه نفق أوسلو المظلم والطويل والذي لم يُفضِ إلّا إلى مزيدٍ من تغول الاستيطان ووقاحة المستوطنين، وأن السلطة لم تعد عنواناً حقيقياً ولا حاضرة فعلاً في منطقة جنين. كُل هذا يدفع الشبان الفلسطينيين إلى فعل ما فعله آباؤهم، أي امتشاق السلاح والمقاومة. نعم، هناك فراغ في حكم السلطة الفلسطينية في المنطقة، وخصوصاً مع تزايد إرهاب المستوطنين ضد المدن والبلدات الفلسطينية، والذي لا تود "إسرائيل" الحديث عنه، بل تُغطّي عليه وتدعمه في كثير من الأحيان، ولا تستطيع السلطة الفلسطينية لا حماية المدنيين الفلسطينيين ولا مَثلاً، اشتراط محاربة إرهاب المستوطنين للتدخل لمعالجة الحالة الأمنية في مدن الضفة الغربية. 

تسعى "إسرائيل"، بعد عدوانها الأخير على جنين، لإعطاء السلطة "عودة أمنية"، من أجل محاولة إعادة السيطرة إليها في ظل ترتيبات وتفاهمات "وتسهيلات" قيل إن "إسرائيل" ستمنحها للسلطة بهدف تقويتها ومنع انهيارها. وتدرك "إسرائيل" كذلك أن عليها أن تساعد السلطة الفلسطينية على فرض سيطرتها على الضفة لأن البديل من إعادة السلطة إلى شمالي الضفة هو أن يستولي جيش الاحتلال الإسرائيلي على المنطقة ويديرها ككانتون مستقل بحيث تقع المسؤولية والعبء بشأن رعاية السكان الفلسطينيين على عاتق "إسرائيل"، وهذه ستكون خطوة كبيرة في تسريع الانتقال إلى واقع "الدولة الواحدة"، الذي تخشاه "إسرائيل". 

وفي نهاية المطاف، لا يزال السؤال الكبير المطروح بعد العدوان الإسرائيلي على المخيم، وزيارة أبي مازن له، هو: هل تستطيع أجهزة الأمن الفلسطينية فرض تأثير السلطة في المنطقة من جديد، وأي وسائل قد تلجأ إليها لتحقيق ذلك: الحوار الوطني الجاد الذي يقود إلى الوحدة، كما دعا الرئيس أبو مازن في زيارته للمخيم، أم تختار الانخراط في فرض السيطرة الفلسطينية عبر حلول أمنية عسكرية قد تقود إلى مواجهة مؤلمة مع أجهزتها!

الواقع أن المتّتبع لردة فعل كثير من قادة السلطة على واقعة طرد قياداتها من مخيم جنين يدرك أنه على رغم أن سلوك الناس عبّر عن ردة فعل عفوية ناتجة من الشعور بالخذلان والتذمر تجاه السلطة وأجهزتها الأمنية ومواقفها وسلوكها قبل العدوان وفي أثنائه، وخصوصاً أنهم، أي الناس، تُرِكوا فريسةً لعدوان الاحتلال خلال أيام الاقتحام، فإن السلطة وقيادتها، بدلاً من الذهاب إلى مراجعة النفس وتقويم سلوكها وتعديله، أخذتا بإسقاط اللوم على أطراف بعينها، متهمتين إياها بالتحريض على السلطة وعلى قياداتها. 

لا يمكن للسلطة، وهي تعيش عقلية "الدون كيشوت" الذي يحارب طواحين الهواء، بسبب ظنه أنها شياطين لها أذرع، أن تردم الفجوة التي تتسع بينها وبين الناس، وهذا للأسف بالضبط ما تفعله، فهي تتهرب من مواجهة الحقيقة، ومن أزمتها التي تعيشها في كل المستويات، وخصوصاً المستوى الشعبي. فبدلاً من أن تستخلص العِبَر والدروس مما جرى في المخيم، وتبحث عن أسباب نفور الشعب منها وتُعالجها لتعيد ترميم علاقتها بالقاعدة الجماهيرية، وتغير سياستها المتماهية مع الاحتلال وتلفظ الفاسدين الذين يعملون لمصالحهم الشخصية، فإنها تقوم بطريقة غير مفهومة، كما فعل دون كيشوت، بمحاربة طواحين الهواء، وتخوض معارك وهمية مع أطراف يصوّر إليها خيالها أنهم يقودون مؤامرة ضدها! 

والأَولى اليوم أن تبني السلطة على هذه الزيارة وأن تتنازل قبل كل شيء عن مشروع أثبت يوماً بعد يوم فشله، وأصبح عبئاً على من يُمثله، ولم يبقَ من "رفاته" سوى ما تريده وتتمسك به "إسرائيل" وتسعى لتثبيته كمُسلّم وحيدٍ في علاقتها بالسلطة الفلسطينية، وهو التنسيق والدور الأمنيان، اللذان تقايض "إسرائيل" السلطة الفلسطينية عليهما الآن في مقابل تقويتها وتعزيز دورها. فهل تُكرر السلطة تجربة المجرَّب الذي لم نجنِ منه سوى الويل، أم تُعيد حساباتها ووجهتها وتتجاوز تناقضات الخلط بين أيديولوجية المقاومة وأيديولوجية عدّ المقاومة "إرهاباً" يستدعي ملاحقة المنخرطين فيها واعتقالهم!