آسيا الوسطى في قلب التحالف الصيني الروسي
تُعَدّ الصين أكبر شريك تجاري لروسيا، بحيث وصل حجم التجارة بين الدولتين إلى مستوى قياسي بلغ 190 مليار دولار العام الماضي، بينما تستمرّ الصين في البحث مع كييف والدول الأوروبية في مبادرتها للسلام بشأن الحرب في أوكرانيا، في مسعى لإنهائها.
لم تكن زيارة الرئيس الصيني، شي جين بينغ، لموسكو في شهر آذار/مارس 2023 زيارة عادية، بل تناولت قضايا مهمة، مثل تايوان في ظل الحرب الروسية الاوكرانية، والعلاقات بين الشعبين، والتعاون اللوجستي، وركّزت على الهجمة الغربية ومحاولة استنزاف روسيا وكسرها من خلال إطالة أمد الحرب.
كما ركزت مخرجات القمة على نجاح شي في تعزيز التحالف مع روسيا بشأن تايوان، على الرغم من وجود تساؤلات بشأن موقف روسيا في حال نشوب حرب في المضيق، وانتهت بنتائج واضحة أشارت إلى تقوية الشراكة بين بكين وموسكو.
وتجلّى مبدأ "شراكة بلا حدود"، الذي أُعلِن في 4 شباط/فبراير 2022، في وقوف الصين إلى جانب روسيا في التحولات العميقة التي يشهدها النظام الدولي من أحادي القطب إلى متعدد الأقطاب.
وخلال لقائه رئيس الوزراء الروسي، ميخائيل ميشوستين، في بكين، أكد شي جين بينغ دعم روسيا اقتصادياً، ومواصلة دعم القضايا المتعلقة بالمصالح الجوهرية المشتركة، وزيادة تطوير التعاون، اقتصادياً وتجارياً واستثمارياً، وتوسيع التعاون في مجال الطاقة.
تُعَدّ الصين أكبر شريك تجاري لروسيا، بحيث وصل حجم التجارة بين الدولتين إلى مستوى قياسي بلغ 190 مليار دولار العام الماضي، بينما تستمرّ الصين في البحث مع كييف والدول الأوروبية في مبادرتها للسلام بشأن الحرب في أوكرانيا، في مسعى لإنهائها، بينما أكدت قمة مجموعة السبع، التي اختُتمت مؤخراً في اليابان، أن الغرب ينظر إلى روسيا والصين على أنهما خصمان استراتيجيان يشكّلان تهديداً وجودياً لهيمنته.
آسيا الوسطى.. ميدان صراع
يصرّ الغرب على دق إسفين في المصالح السياسية بين روسيا والصين، محاولاً إيجاد الثُّغَر بين الدولتين في آسيا الوسطى، التي تُعَدّ بوابة الصين نحو الشرق الأوسط وأوروبا وأفريقيا، وهي تمتد في آسيا، من بحر قزوين في الغرب إلى الصين ومنغوليا في الشرق، ومن أفغانستان وإيران في الجنوب إلى روسيا في الشمال. تتكون دول آسيا الوسطى حالياً من أوزبكستان وتركمانستان وكازاخستان وطاجكستان وقيرغيزستان. وهي ذات أهمية كبرى بالنسبة إلى الصين، نتيجة دوافع اقتصادية وسياسية وأمنية. فلهذه المنطقة موقع استراتيجي ودور محوري في مبادرة "الحزام والطريق".
تمتلك دول آسيا الوسطى مقدّرات هائلة من الثروة النفطية والغاز الطبيعي، اللذين تحتاج إليهما الصين، وتملك أكثر من نصف إمدادات اليورانيوم عالمياً، وتُعَد تقاطع الطرق الذي يربط الشرق والغرب والشمال والجنوب.
تعمد الصين إلى زيادة وارداتها من الغاز والنفط، لكنها تخشى الاضطربات في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وتحاول تفادي هده الطرق والعمل في الطريق البري. وكانت الاستثمارات الصينية المباشرة في دول آسيا الوسطى تجاوزت 15 مليار دولار أميركي، واتفقت مع عدد من الدول على الدفع بعملاتها الوطنية، كما حدث مع البرازيل والأرجنتين وروسيا والإمارات العربية المتحدة.
تخشى الصين دخول مقاتلي الإيغور والجماعات المتطرفة الأخرى أراضيها وتهديد الأمن والسلم فيها، لذلك تعمل مع دول آسيا الوسطى على تأمين الأمن ومكافحة التطرف والإرهاب، وتعزيز التدريبات الأمنية مع دول المنطقة. وتُجري مع طاجكستان تدريبات مشتركة لمكافحة الإرهاب. وكانت الصين ودول المنطقة نفّذت عدداً من المشاريع على غرار خط أنابيب الغاز بين الصين وآسيا الوسطى (الذي يمر عبر أراضي تركمانستان وأوزبكستان وكازاخستان)، وخط أنابيب النفط بين الصين وكازاخستان، والطريق السريع بين الصين وقرغيزستان وأوزبكستان.
جاءت القمة الصينية الأخيرة التي عُقدت في مدينة شيان الصينية، وهو أول اجتماع مباشر لرؤساء دول آسيا الوسطى منذ 31 عاماً بعد إقامة الصين علاقات دبلوماسية بها، لتؤكد ضرورة تعزيز التعاون، أمنياً واقتصادياً وسياسياً، وتعزيز المبادلات التجارية، وترويج مبادرة "الحزام والطريق"، والتزام "وثيقة سياسية" تضع الحجر الأساس لعقود مقبلة من التعاون.
موسكو وبكين.. هل من شراكة حقيقية في آسيا الوسطى؟
تعمل موسكو وبكين في آسيا الوسطى جنباً إلى جنب في إطار التعاون، وليس التنافس على النفوذ. تعمل موسكو على تعزيز قواعدها، بينما تحاول الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون تقديم العروض وتعزيز حضور واشنطن في مواجهة التحالف الروسي الصيني. لذلك، اكتسبت قمة زعماء الصين ودول آسيا الوسطى الخمس (كازاخستان وقرغيزستان وتركمانستان وطاجيكستان وأوزبكستان) أهمية كحدث دبلوماسي كبير.
وكان تمّ إنجاز مشروع القطار السريع بين الصين وأوروبا، الذي يمر عبر آسيا الوسطى، الأمر الذي يساعدها على بناء قدراتها وتعزيز اتفاقات الاستثمار في إطار المحافظة على السيادة والأمن والاستقلالية لدول آسيا الوسطى التي تتمتع بركائز وقدرات تمكّنها من أن تصبح مركزاً مهماً للتواصل في منطقة أوراسيا.
وتؤكد روسيا أن الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي "الناتو" يحاولان تحويل منطقة آسيا الوسطى إلى رأس جسر لتهديد الحدود الجنوبية لروسيا.
تتحرّك بكين لملء الفراغ الذي نشأ في إثر الحرب الروسية على أوكرانيا، وأدى الصراع الروسي – الغربي إلى تحجيم الخلافات التي كانت قائمة بين روسيا والصين في المسائل المتعلقة بآسيا الوسطى، من خلال ما قدمته روسيا من اقتراحات لبناء تحالف روسي – صيني في مواجهة الغرب، أتى الرد الروسي في أوكرانيا وشبه جزيرة القرم كرسالة قوية إلى دول آسيا الوسطى، مفادها أن تدخل الغرب هو بمثابة تهديد للأمن القومي الروسي. وكانت روسيا نجحت في استخدام المجال التجاري لتعزيز نفوذها في آسيا الوسطى. وعلى الرغم من تركيزها على احتكار السوق المالية، فإنها عززت نفوذها في قطاعَي الطاقة والثروة المعدنية.
وخلافاً لاستثمارت الصين وروسيا غير المشروطة سياسياً في آسيا الوسطى، ركّزت معظم الاستثمارات الأميركية على ضمان إبرام اتفاقيات لإنشاء مزيد من القواعد العسكرية. الرؤية الصينية تركز على وسائل النقل عبر السكك الحديدية والبرية والخطوط الجوية وخطوط الأنابيب البحرية. وتوسيع المرور البري وزيادته يسمحان للصين بتنويع قنوات الاستيراد والتصدير، ونزع فتيل الخطر من الممرات البحرية التي لا تزال تسيطر عليها الولايات المتحدة، كما أن الاستثمار في البنية التحتية الجديدة يرسخ النفوذ الصيني، اقتصادياً وسياسياً. باتت آسيا الوسطى أساسية بالنسبة إلى مبادرة الحزام والطريق الصينية البالغة قيمتها تريليون دولار، والتي تُعَد أبرز مشروع جيوسياسي في عهد شي جين بينغ.
ازداد التقارب الصيني الروسي منذ الحرب في أوكرانيا على رغم إصرار بكين على أنها تلتزم الحياد تجاه النزاع. وتعد الصين أكبر شريك تجاري لروسيا، وأفضى ذلك إلى التحالف مع بروز محورية السيطرة على أوراسيا اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً في إطار هذا الصراع، وفي القلب منه دول آسيا الوسطى، حيث يحظى البعدان الاستراتيجي والأمني بأهمية نسبية مرتفعة في سياق الصراع الروسي الأميركي في المنطقة.
تجمع المظالم المتمثلة بالعقوبات الاميركية وسياسات الهيمنة الصين وروسيا. ليس من المنطقي القول إن التنافس بينهما زال، إلّا أن المصالح المشتركة تضع الدولتين في المركب نفسه، وتؤدي الجغرافيا السياسية الدور الأكبر في قدر التحالف، الأمر الذي يثير قلق الخبراء الأمنيين في واشنطن.