الأمن العربي في مواجهة أعداء ثورة يوليو التاريخية
العصر الحالي يفرز آليات أكثر تطوراً واستقراراً فهناك نموذج الاتحاد الأوروبي ونموذج بلدان البريكس الآخذ بالتطوّر وغيرهما، وقد يكون للشعوب العربية التي لديها ميزة الجغرافيا والتاريخ واللغة والثقافة والدين نموذجها الخاص الأكثر دينامكية. المهم القرار والإرادة السياسية ولفظ ثقافة التبعية واستجداء الحماية مرة وإلى الأبد.
منذ اللقاء التاريخي الذي جمع الرئيس روزفلت والعاهل السعودي الراحل عبد العزيز آل سعود في فبراير 1945 اعتمدت الولايات المتحدة استراتيجية أمنية اعتبرت فيها بلدان مصادر النفط في الخليج العربي وإيران "مناطق أمن قومي أميركي"، وتعزَّزت هذه الاستراتيجية بمبدأ كارتر عام 1980 لدى دخول القوات السوفياتية أفغانستان وسقوط نظام الشاه في إيران. وتجسيداً لهذه الاستراتيجية أقامت مظلّة أمنية مُعقَّدة باهظة التكاليف لحماية بلدان مصادر النفط وحكوماتها، وأعلنت عن جهوزيّتها حتى الدخول في صِدامٍ نووي إذا ما اقتضى الأمر. الآن وعلى ما يبدو فإن الأمور آخذة بالتغيّر ، فمنذ سنوات بدأت ترتفع في أوساط النخبة السياسية الأميركية ومراكز الأبحاث أصوات تتحدَّث عن جدوى الاستمرار بتحمّل تكاليف باهِظة لمظلّة أمنية في الوقت الذي تتراجع فيه أهمية نفط الشرق الأوسط في معادلة الطاقة الاميركية ، وتستند هذه الأصوات إلى معطيات تشير إلى أن واردات الولايات المتحدة من النفط الخام من بلدان الخليج العربي لم تشكّل أكثر من 16% من إجمالي وارداتها، في حين أن الواردات من كندا لوحدها شكَّلت أكثر من 40% من دون كلفة حماية أمنية. ناهيك إلى التوقّعات التي تشير إلى ازدياد الإنتاج الأميركي من النفط الخام مستقبلاً ما سيُقلّل الفجوة الاستيرادية وستكون حتماً على حساب حصّة بلدان الخليج. وستصبح الصورة أكثر وضوحاً في ظلّ تزايُد الاهتمام بمصادر الطاقة البديلة والنووية ، وفي مجال الغاز حيث يتزايد الطلب العالمي على حساب النفط كمصدرٍ للطاقة ، فإن الولايات المتحدة تنتج ما يكفيها بل تهدف للتحوّل إلى بلدٍ مُصدّرٍ. .
إن النقاش بشأن جدوى المظلّة الأمنية توسَّع إلى استنتاجات مفادها أن هذه الكلفة الباهظة لحماية مصادر النفط في الخليج العربي واستقرار حكوماته هي خدمة مجانية مباشرة للمُنافِس الاقتصادي اللدود الصين الذي بات أكبر مستورد لنفط هذه المنطقة.
وعلى ما يبدو فإن الأمر بات يختمر في أذهان الساسة والاستراتجيين الأميركيين عبَّر عنه الرئيس السابق أوباما أيام حُكمه الأخيرة في مقابلة صحفية مطوّلة حيث طالب بلدان النفط العربية ببدء الاعتماد على الذات في حماية أنفسهم ، ما أثار موجة غضب واسعة ، وجاء ترامب ليتحدَّث بذات السياق ولكن على طريقته المعهودة كرجل أعمالٍ ، حيث قال بما معناه إذا أردتم استمرار حمايتنا عليكم دفع الثمن ، مُشرِّعاً الباب واسعاً لأكبر عملية ابتزاز مالي في التاريخ.
بالطبع لا يجب أن يُفهَم بأن الولايات المتحدة كدولةٍ عُظمى ستنسحب من الشرق الأوسط ، ولكنها غيَّرت تصنيف المنطقة من منطقة "أمن قومي" لا يجب أن يشاركها فيها أحد جاهزة للدفاع عنها حتى بالأسلحة النووية ، إلى منطقة مصالح مثل المناطق العديدة في العالم التي تعتبرها كذلك.
الاستشعار بالتوجّه الأميركي الجديد أربك العديد من قادة المنطقة ممَن نعموا بدفء المظلّة الأمنية الأميركية لعقودٍ طويلةٍ وبدأ التحرّك العفوي لإيجاد بدائل حيث جرت لقاءات وزيارات تبادلية مع لندن وباريس ، اتضح أن ما يعني هذه العواصم صفقات أسلحة وأسواق وليس بمقدورها رعاية منظومة أمنية باهظة التكاليف في منطقة شديدة الاضطراب ، وقد جرّبت هذه العواصم في مهام صغيرة أقل من ذلك عندما قرَّرت الإطاحة بمعمَّر القذافي فلم تستطع من دون الثقل الأميركي من خلال حلف الناتو. والآن تتعالى بعض الأصوات بأن الحل يكمن في التحالف مع تل أبيب ، هذه الأصوات تعكس سوء تقدير كبير وسذاجة مُفرَطة في أحسن الأحوال، فإسرائيل لم تستطع حماية "ظهرها" وهي هارِبة من جنوب لبنان عام 2000 والحروب اللاحقة التي أشعلتها ، وآخر حرب حقيقية انتصرت فيها إسرائيل كانت حرب 1967"والجيش الذي لا يقهر" بات يستجدي عواصم العالم لضمان بقاء قوات حزب الله والحرس الجمهوري الإيراني بعيداً مسافة 40 كم عن هضبة الجولان. إن ما يقلق القادة الأمنيين في إسرائيل هو اندلاع صِدام عسكري مع بضعة آلاف من المقاتلين في حدودها الجنوبية مع غزَّة وحدودها الشمالية مع لبنان في آنٍ واحدٍ ، والقلق الأعظم انضمام قوات الحرس الجمهوري الإيراني ومقاتلي حزب الله والجيش السوري الذي تمرَّس بحربٍ قاسيةٍ إلى الصِدام في جبهة الجولان. قد تكون إسرائيل مفيدة في المجال الاستخباري ونقل الخبرات والتدريب مع مشاركة محدودة لسلاح الجو ولكن ذلك لا يحمي أحداً أو يحسم حرباً.
قد يقول قائِل إن المقصود بالتحالف مع إسرائيل ليس هدفاً بحد ذاته ولكن على غرار المثل العربي " أقرب الطرق إلى قلب الرجل معدته" وأقرب الطرق لقلب البيت الأبيض هو إسرائيل ، بمعنى استخدام اللوبي اليهودي للضغط على الساسة الأميركيين للاستمرار في العقيدة الأمنية الأميركية في الشرق الأوسط ، وقد يكون ذلك صحيحاً إلى حدٍ ما ولكن عندما ترسم الدول العظمى استراتيجياتها بعيدة المدى لا تأخذ الواسطات والهدايا الثمينة بعين الاعتبار.
مع اقتراب ساعات الحسم في سوريا وعدم قدرة التحالف العربي المدعوم أميركياً على حسم الصراع في اليمن والاستنجاد القطري بتركيا وإيران لردع شقيقاتها من بلدان الخليج الأخرى ، والتنسيق التركي الإيراني في مواجهة النزعات الانفصالية الكردية في المنطقة ، تظهر بدايات تشكّل نظام أمن اقليمي جديد عماده روسيا ومن خلفها الصين ، إضافة إلى تركيا وإيران ، لا تستطيع الولايات الأميركية وقفه وكل ما تسعى إليه جاهدة أن تكون إسرائيل جزءاً منه ولو بشكلٍ غير مباشر، أو على الأقل األا يشكّل خطراً على أمن إسرائيل. وللأسف الشديد البلدان العربية موضوع هذا النظام الأمني في طور التشكّل ، ليست جزءاً منه.
لكل من أطراف هذا النظام مشروعه الخاص فإيران تسعى لتكون قوّة اقليمية عُظمى ، وحزب العدالة في تركيا لديه مشروع إعادة " النفوذ العثماني" بروحٍ عصريةٍ عبر قيادة العالم الإسلامي السنّي بعد فشل رِهان تركيا على المشروع الأوروبي لعقودٍ عدّة ، والمشروع الروسي الصيني يهدف إلى إعادة بناء عالم متعدّد الأقطاب يكون الشرق الأوسط جزءاً مهماً منه. البلدان العربية لا مشروع لديها ، المشروع الوحيد الذي امتلكته لفترةٍ وجيزةٍ منتصف القرن الماضي هو المشروع القومي الذي تبنّاه جمال عبد الناصر وجرى إجهاضة بمُساهمةٍ منا كعرب.
لقد تجاوز الناتج المحلي الإجمالي للبلدان العربية بلغ 2.7 تريليون دولار بالأسعار الجارية ويعادل 155% من مجموع الناتج المحلي الإجمالي لتركيا وإيران وإسرائيل ، وإذا أضفنا لهم روسيا الاتحادية فيعادل 87% وهذا رقم مذهل بكل تأكيد.
إن بلداناً عربية يقطنها 350 مليون نسمة أغلبها من الفئات العُمرية الشابة ولديها مساحة تتجاوز 14 مليون كم2 وناتج محلي يتجاوز 2.7 تريليون دولار قادرة بكل تأكيد أن تكون " مايسترو " النظام الأمني الاقليمي الجديد إذا ما امتلكت مشروعها العربي المشترك ولن تكون حينها بحاجة أن تستجدي الأمن والحماية من أحد ، إن هذا المشروع سيكون كفيلاً بتحقيق الأمن لكافة البلدان العربية على المدى الاستراتيجي وقادراً على رصّ الشعوب العربية بكل مقوّماتها الدينية والإثنية والطائفية والاقليات وراء هدف سامٍ.
في ذكرى ثورة يوليو فإن العودة إلى روح المشروع القومي الذي تبناه جمال عبد الناصر هو الخيار الاستراتيجي الوحيد للحفاظ على أمن ووحدة البلدان العربية وتجاوز صراعاتها. وعندما نقول روح مشروعه لكي نتجاوز النسخ والتكرار وذات الآليات التي استخدمت بالاعتماد على العسكر والوحدة الاندماجية الفورية باتفاقيات بين قادة والتي كانت أحد أسباب فشله.
العصر الحالي يفرز آليات أكثر تطوراً واستقراراً فهناك نموذج الاتحاد الأوروبي ونموذج بلدان البريكس الآخذ بالتطوّر وغيرهما، وقد يكون للشعوب العربية التي لديها ميزة الجغرافيا والتاريخ واللغة والثقافة والدين نموذجها الخاص الأكثر دينامكية. المهم القرار والإرادة السياسية ولفظ ثقافة التبعية واستجداء الحماية مرة وإلى الأبد.