طهران بين التفاوض السياسي والمعادلات العسكرية.. ضبط التوتّر
الرسالة الأخيرة التي وجهّتها إيران إلى واشنطن عقب زيارة رئيس الوزراء الياباني "شينزو آبي" تأتي في إطار عدم الاهتمام بالتفاوض أو التحدّث بشكلٍ مباشرٍ مع ترامب، فالجمهورية الإسلامية الإيرانية تُتقِن فن التفاوض، وتمتلك مهارات فائِقة في اللعب على المدى البعيد للتخفيف من حدّة العقوبات الأميركية، ما يعني بأن التلويح الأميركي بشنّ حربٍ هو لغة تصعيدية بخياراتٍ وسيناريوهاتٍ لا تمتلك أحجاماً و لا أوزاناً سياسية أو عسكرية، لأن إيران تُدرك بأن ترامب غير قادر على البدء الفعلي بشن حربٍ قد تُحوّل قواعده في الخليج إلى رماد، فضلاً عن أن الاستراتيجية الترامبية المعتمدة على الترويع لن تُجدي مع الإيرانيين.
ضمن إطار الردود غير المباشرة بين واشنطن وطهران، يمكن البناء على التجاذبات السياسية كما العسكرية ضمن مسرح الخليج العربي، فقد شكّلت التطوّرات التي تأتي وفق تراتبية سياسية مُمنهجة، بداية لعملية الصراع غير المباشر بين الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية الإيرانية، حيث أن عملية ميناء الفجيرة الإماراتي، لا زالت ورغم الادّعاءات الأميركية بمسؤولية طهران عنها، تُعتبر كعامل ضغطٍ سياسي في قالب عسكري، يُراد منه توجيه سياسات صادِمة تؤدي في النهاية إلى جذب إيران باتجاه طاولة المفاوضات الأميركية.
في مقابل ذلك فقد قامت واشنطن بتنفيذ إجراءات تحمل في جزئيّاتها رسائل استراتيجية عسكرية، لكنها فارِغة المضمون والهدف، فـي حين يتم توقيع اتفاقيات عسكرية بين واشنطن وكل من الرياض وأبو ظبي والمنامة، بُغية نشر أعداد كبيرة من القوات الأميركية في مياه الخليج العربي، فهذا يعني سياسياً أن واشنطن تقوم بمدّ الجسور الدبلوماسية نحو طهران، ولكن بلغةٍ عسكريةٍ، ولا يعني إطلاقاً أن واشنطن تحشد لبدء حرب ضد طهران، فالولايات المتحدة تُدرِك وبالعقل الاستخباراتي لديها، أن أية حرب ضد إيران لن تُحقّق النتائج المطلوبة إذا ما أخذت بعين الاعتبار القدرة العسكرية الإيرانية، وحجم التطوّر التكنولوجي والذي تم ربطه بالصناعات العسكرية الإيرانية، وبالتالي فإن هناك قراراً ضمنياً ورغبة مشتركة لدى واشنطن وطهران بعدم رَفْع سقف التهديدات، ومنع وصولها إلى مستوياتٍ استراتيجيةٍ، تُجنّب الطرفين اللعب على حافّة الهاوية العسكرية.
ضمن ما سبق، بات من الواضح أن الطرفين الأميركي والإيراني يناوران سياسياً ودبلوماسياً، ويسعى كل طرف إلى جذب الأخر وفق شروطه التي تندرج ضمناً في معادلة قوّة الردع، فالرئيس الأميركي دونالد ترامب وبصرف النظر عن تهديداته بشنّ حرب على إيران، إلا أن ما يُصرّح به يأتي في إطار الحرب النفسية، لكن الثابت لدى ترامب أنه لا يُفكّر بحربٍ ضد إيران، وفي ذات السياق جاءت تصريحات المُرشد الأعلى السيّد علي خامنئي لتصبّ في نفس الإطار، بقوله في أثناء لقائه بمسؤولين إيرانيين رفيعي المستوى، بأن الأمّة الإيرانية عازِمة على مقاومة "الشيطان الأكبر"، مؤكداً بأن بلاده لن تتفاوض مع أميركا بشأن الاتفاق النووي الإيراني، لكن وضمن سياسة التهديد والرد المباشر، فإن كلاً من واشنطن وطهران قادران على تحريك جبهات متعدّدة ضد بعضهما البعض وبسيناريوهات مختلفة، لكن ضمن حدود عدم الاستفزاز وتأطير الجبهات، وهذا يأتي حُكماً في إطار الإدراك العسكري لكلا الطرفين، ففي الوقت الذي تمتلك فيه واشنطن قدرات عسكرية لا يُمكن مُضاهاتها إيرانياً، إلا أنه وفي مقابل ذلك فإن إيران تمتلك قدرات غير محدودة تستطيع من خلالها إرهاق القوّة العسكرية لواشنطن وكذلك العمل على استنزافها، وبالتالي فإن العنوان الأبرز الذي سيُشكّل مشهد الشرق الأوسط في المرحلة المقبلة، سيكون عمليات مجهولة الهوية في الخليج العربي، لكن هذه العمليات لن تخلو من رغبات إثبات الوجود والقوة العسكرية لكلٍ من واشنطن وطهران، لكن بقالب عدم التعرّض العسكري المباشر، خاصة أن المناخات الإقليمية والدولية غير مُهيّأة للدخول في صراعٍ عسكري إقليمي بطيفٍ دولي.
حيثيات الصراع الأميركي الإيراني لا يمكن اختصارها بعمليةٍ عسكريةٍ أمنيةٍ محدودةٍ ضمن أطر جغرافية مُحدَّدة، فسواء أكانت الرسائل تأتي من محيط السفارة الأميركية في العراق إبان الهجوم الذي استهدفها في التاسع عشر من الشهر المنصرم، أو استهدف ناقلات النفط في خليج عُمان أو في ميناء الفجيرة الإماراتي، أو استهداف منصّات نفطية سعودية، يُقابل ذلك تهديد سياسي أميركي ضد إيران، على شاكِلة تصفير صادرات النفط أو حشد عسكري في الخليج العربي، أو التهديد بفرض عقوبات جديدة على طهران، كل هذا لا يُعدّ رسائل حرب، فالأصل في كل هذه الرسائل هو ألعاب سياسية تأتي في إطار جسّ النبض بين الطرفين، حيث أن أركان المواجهات المباشرة لم تكتمل بعد، وأغلب الظنّ أنها بعيدة جداً عن الاكتمال، وما يدعم هذا التوجّه، ما نقلته مجلة "التايم" الأميركية عن ثلاثة مسؤولين عسكريين أميركيين، يشاركون في التخطيط للقوات العسكرية والإشراف عليها في منطقة الخليج العربي، تأكيدهم أنه "لا توجد خطة فعلية قابلة للتنفيذ في ما يتعلق بإيران، أو أي شيء من هذا القبيل لنشر قوات على نطاق واسع في الخليج"، وعليه فإن المناوشات غير المباشرة تُشكل أساساً استراتيجياً سيتم التعاطي معه في الوقت الحاضر بين الطرفين.
في المُحصّلة، الرسالة الأخيرة التي وجهّتها إيران إلى واشنطن عقب زيارة رئيس الوزراء الياباني "شينزو آبي" تأتي في إطار عدم الاهتمام بالتفاوض أو التحدّث بشكلٍ مباشرٍ مع ترامب، فالجمهورية الإسلامية الإيرانية تُتقِن فن التفاوض، وتمتلك مهارات فائِقة في اللعب على المدى البعيد للتخفيف من حدّة العقوبات الأميركية، ما يعني بأن التلويح الأميركي بشنّ حربٍ هو لغة تصعيدية بخياراتٍ وسيناريوهاتٍ لا تمتلك أحجاماً و لا أوزاناً سياسية أو عسكرية، لأن إيران تُدرك بأن ترامب غير قادر على البدء الفعلي بشن حربٍ قد تُحوّل قواعده في الخليج إلى رماد، فضلاً عن أن الاستراتيجية الترامبية المعتمدة على الترويع لن تُجدي مع الإيرانيين.