صفقة القرن واتفاقيات أوسلو
التراجع عن أوسلو وفَسْح المجال لتطوير كل أساليب المقاومة في الضفة أصبحا مطلبين ملحّين لا يقبلان التأخير ، وسيكون أحسن رد على مخططات الصهاينة وكوشنير وترامب والعربان المتصهينين والمُطبّعين.
في اعتقادي أن مهندسي صفقة القرن أرادوها أن تكون تتويجاً لمسارٍ خاطئ كانت اتفاقية أوسلو نقطة انطلاقه . في أوسلو أخذ الصهاينة كل شيء أو كادوا ولم يحصل الفلسطينيون إلا على اللمَم. أعطى أوسلو للصهاينة اعترافاً فلسطينياً بدولة إسرائيل من دون أن يحصل الفلسطينيون على اعتراف من الصهاينة بدولتهم في إطار حل الدولتين.
اتفاقية أوسلو فرضت على "السلطة الفلسطينية " الالتزام الكامل بالتنسيق الأمني الذي بلغ مداه بإعطاء السلطة للصهاينة معلومات عن المطلوبين الفلسطينيين، وتسهيل أو غضّ الطّرف عن مداهمات الجيش الصهيوني لأحياء في الضفة الغربية التابعة نظرياً للسلطة الفلسطينية ، ومحاربة أية محاولة لتطوير نوعية التسلّح عند الفصائل الفلسطينية المعارضة لاتفاقية أوسلو. من دون أن ننسى الدور السلبي الذي لعبته السلطة في تعاملها مع قطاع غزّة ومساهمتها في حصاره والتضييق عليه . وأكاد أجزم أن التنسيق الأمني قد شجَّع الصهاينة على توسيع المستوطنات المتواجدة في الضفة ، بل دفعهم إلى إنشاء المزيد منها. وكلما كانت السلطة تتفانى في احترام بنود اتفاقية أوسلو ولواحقها ، كلما كان الكيان الصهيوني يُمعِن في المزيد من تهويد القدس ونشر المستوطنات حولها ، وفِي كل الضفة الغربية وإحاطتها بجدارات العزل وربطها في ما بينها بطرقات التفافية ، حتى تحوّلت الضفة إلى أرخبيل من المستوطنات، استولت على الكثير من الأراضي وحوّلت خريطتها الديموغرافية وجعلت من المستحيل حل القضية الفلسطينية في إطار الدولتين.
كما كان لاتفاق أوسلو نتائج سيّئة أخرى، إذ أسقط الحَرَج عن الكثير من الدول التي كانت تُناصِر القضية الفلسطينية وترفض الاعتراف بإسرائيل كالهند والصين والعديد من الدول الإفريقية والآسيوية. بعد أوسلو لم تكتف الهند والصين بالاعتراف بإسرائيل فقط بل طوّرتا علاقتهما الإستراتيجية معها اقتصادياً وعلمياً وتكنولوجياً وفِي مجال التسلّح لدرجة تُثير قلق أميركا الحليف الاستراتيجي لإسرائيل . أما في إفريقيا فقد ازداد النفوذ الصهيوني بعد أوسلو مقابل تراجع الوجود العربي والتضامن مع القضية الفلسطينية.
اتفاق أوسلو فتحَ المجال أيضاً أمام كل مَن كان يتحيَّن الفُرَص من الدول العربية و الإسلامية للتطبيع مع هذا الكيان الغاصِب، فهرولوا مُسرعين إليه سراً وعلانيةً بحجّة أنهم ليسوا أحرص على فلسطين من الفلسطينيين الذين اعترفوا بإسرائيل وطبَّعوا معها. بل من الأعراب مَن يسعى لتأسيس تحالف سنّي صهيوني أميركي لضرب جبهة المقاومة ، ومنهم مَن حرَّض إسرائيل ضدّ المقاومة اللبنانية في 2006 ، ويُحرِّض الصهاينة والأميركان ضدّها اليوم ، كما يُحرِّض على حصار غزّة وضرب الفصائل المقاوِمة فيها لفتح الطريق السيّار أمام الصفقات المشبوهة كصفقة القرن.
وكل ما كانت السلطة تُصرّ على التمسّك بأوهام أوسلو وسراب حل الدولتين ، كلما تمادى الصهاينة في استهتارهم وعربدتهم لدرجة انتهاك الحرمات المُقدّسة في القدس والخليل ، وإعلان يهودية إسرائيل، وتجرّأ الرئيس الأميركي ترامب في نقل سفارة بلاده إلى القدس . لكن قمّة الاستخفاف والاستهتار بالسلطة الفلسطينية والاتفاقات التي رعتها أميركا في أوسلو وبعد أوسلو ، كانت تصريح السفير الأميركي الصهيوني فريدمان بشرعية وجود المستوطنات الصهيونية في الضفة.
سيقول قائل إن كل ما أشرت إليه من مخلّفات أوسلو معروف وأن الزمن ليس زمن تقليب المواجع بل هو زمن إعادة الوحدة إلى الصف الفلسطيني، خصوصاً بعد إجماع الفصائل الفلسطينية والسلطة على رفض صفقة القرن وتخوين كل فلسطيني سيُشارك في المؤتمر الاقتصادي المُزمَع عقده في البحرين في يونيو 2019 ، والذي يسوّق له على أنه الشق الاقتصادي لصفقة القرن سيأتي بعده الشق السياسي ، وأقول نعم هو كذلك يجب عدم وضع الملح في الجراح ، لكن المُقلِق هو أن السلطة و بالرغم من كل الضرر الذي ألحقه اتفاق أوسلو بالقضية الفلسطينية لم تعلن تراجعها عنه وسحب اعترافها بالكيان الصهيوني ، وإنهاء التنسيق الأمني معه وما زالت تحلم بحل الدولتين الذي لم يعد ممكناً في ظل الوقائع والمُعطيات على الأرض .وللأسف الشديد ، الصهاينة حقّقوا باتفاق أوسلو جلّ أهدافهم التي سطّروها عندما وقّعوا على هذه الاتفاقية، لذا عجّلوا بإعلان وفاتها عندما حثّوا دونالد ترامب على توقيع شهادة وفاة هذه الاتفاقية المشؤومة، بالتوقيع على نقل سفارة أميركا إلى القدس والتصريح بكل صفاقة إن قضية القدس قد حُسِمَت نهائياً ولا مجال لإدراج قضيتها في الحل النهائي.
لكن الصهاينة اليوم في حاجةٍ إلى اتفاقيةٍ جديدةٍ قد تكون صفقة القرن التي يتم الترويج لها ، أو صفقة / اتفاقية أخرى يحقّقون فيها تصفية ما تبقّى من القضية الفلسطينية معوّلين في ذلك على دعم أميركي غير مسبوق وتواطؤ بعض الدول العربية التي يرى حكامها في أميركا وإسرائيل الدعامة والسند لهم ليستمروا في كراسي الحُكم وحمايتهم من خصومهم الداخليين وأعدائهم الخارجيين . اتفاقية جديدة على قاعدة يهودية دولة إسرائيل عاصمتها الأبدية القدس الموحّدة ، وإبعاد حل الدولتين وعدم مناقشة التوسّع الذي تعرفه المستوطنات ، أو فتح المجال للنقاش حول حق عودة المُبعَدين والمهاجرين. ويبدو أن إسرائيل تسعى مباشرة أو عبر أميركا من وراء هذه الاتفاقية المُنتظرة إلى تحويل القضية من صراعٍ بين الصهاينة والفلسطينيين إلى صراعٍ بين الفلسطينيين والأردنيين ، وصراع بين الفلسطينيين والمصريين ، أي تحويل القضية الفلسطينية إلى مشكلة داخلية أردنية ومصرية.
صفقة القرن يجب أن تفشل وهذا واجب أخلاقي وديني وإنساني لا بد من أن يعمل من أجله كل العرب والمسلمين باعتبار أن قضية القدس وفلسطين قضيتهم الأولى ، ويعمل من أجله كل إنسان حرّ مُناهِض للإمبريالية والصهيونية . لكن آن الأوان أن تتراجع السلطة عن اتفاقية أوسلو وما ترتَّب عنها ، وإفهام العالم أن كل ما تم منذ أوسلو لا يعدو كونه استمراراً للاحتلال الصهيوني البغيض بشكل أكثر تطرفاً وعنصرية وإضراراً بحقوق الشعب الفلسطيني والتفافاً على الاتفاقات والتملّص من التعهّدات والالتزامات.
التراجع عن أوسلو وفَسْح المجال لتطوير كل أساليب المقاومة في الضفة أصبحا مطلبين ملحّين لا يقبلان التأخير ، وسيكون أحسن رد على مخططات الصهاينة وكوشنير وترامب والعربان المتصهينين والمُطبّعين. نعم هذا الموقف ستكون له كلفة لكن كلفته ستكون حتماً أقل من الثمن الذي سيؤدّيه الفلسطينيون إن لم يتراجعوا عن أوسلو ، ويعلنوا للعالم أن إسرائيل وراعية " السلام " أميركا لم يكونا يوماً جادين في حل القضية الفلسطينية حلاً عادلاً يضمن حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة . ولتعلم السلطة يقيناً أن إفشال صفقة القرن لن يعني نهاية المناورات والمؤامرات بهدف تصفية القضية الفلسطينية، وقد يدفع الفشل في تمرير صفقة القرن الكيان الصهيوني، مدعوماً بفريق ترامب الصهيومسيحي، نحو مغامرة عسكرية في غزّة لكَسْر شوكة الصمود الفلسطيني وإرغام الفلسطينيين على الاستسلام في ظل وضع عربي مهترئ ، وتعقيدات إقليمية ودولية تتّسم بالكثير من الاستقطاب . التراجع عن أوسلو بالتزامن مع رفض المشاركة في مؤتمر البحرين رسالة لمَن يريد تصفية القضية الفلسطينية مفادها أن السلطة وفصائل المقاومة الفلسطينية قد أصبحوا جميعاً في خندقٍ واحدٍ وأية مغامرة عسكرية ضد غزّة ستلقى دعماً من الضفة والعكس صحيح.