صفقة القرن: فن الخداع السياسي!!

ما هذه الهالة الكبيرة والضخمة – والمزعجة- التي وضعوا فيها هذه العجوز الشمطاء، وأصبحت الشغل الشاغل للسياسيين والمحللين وحتى الذين يجلسون في المقاهي، وينفثون دخان "الشيشة"!! تتردد على مسامعنا عبارة (صفقة القرن) في اليوم أكثر من مئة مرة!!

لقد نجحوا في خلق حالة نفسية مزمنة، وأن هناك (طوفاناً) سياسياً قادماً سيجرف معه الأخضر واليابس، وأن الأميركان(العباقرة!) سيغيرون وجه الشرق الأوسط، ويقلبون (عاليها واطيها)، وأنه على الجميع أن يستعدوا لهذه (الجرافة) السياسية التي ستصفي القضية الفلسطينية (من شروشها) وتمنح "إسرائيل" تفوقاً خارقاً.
ونجحوا أن يضعوا الجميع على مسار الانتظار والخوف والترقب!!
ومن ثم حشروهم في زاوية الدفاع ومقاتلة الفراغ!!
بدأوا لعبتهم النفسية في تسريب هنا وتسريب هناك!!
ثم في التلاعب بالتوقيت: الأسبوع المقبل... نهاية الشهر... مع احتفالات "إسرائيل" بما يسمى "تاريخ تأسيسها".. مع نهاية شهر يونيو .. الأمر بحاجة إلى انضاج.. هناك حاجة للتأجيل!!
يخرج جرينبلات من وقت لآخر ليبشر بأن (الصفقة قادمة)، وأنها (ستصنع سلاماً حقيقياً)، ثم يتبادل دوره مع كوشنير الذي يقول: إنه "يسعى لحشد دعم مالي من أجل تمرير مشاريع اقتصادية مرتبطة بالصفقة".
ثم انتقلوا إلى لغة التهديد المبطن بأن الصفقة ستفرض حتى لو رفضت السلطة الفلسطينية. ومن ثم إلى لغة المخادعة والكذب بأن بعض الدول العربية باتت تتساوق مع الصفقة، وأن هناك ملوكاً ورؤساء على استعداد لبيع كل شيء لتمرير (هبة السماء) التي تبيض ذهباً.
الناشط العربي الأميركي جيمس زغبي يقول: «إن كيسنجر هو مَن وصف نهجه لإدارة المفاوضات العربية-"الإسرائيلية" بأنَّه خلق وهم الزخم من أجل تعويض غياب الزخم، لم يكن الهدف هو النتيجة، وإنما إبقاء الجميع مشاركاً في العملية».
ووصف دوغلاس بلومفيلد، الناشط البارز في لجنة (إيباك) فكرة الصفقة بأنها ''نهج سطحي للغاية في التعامل مع ًالخلاف التاريخي".
وللأسف إن هذه الحيلة الممجوجة انطلت على بعض الفلسطينيين الذين أصيبوا بـ(رهاب) الصفقة، وصاروا يحشدون لها المسيرات والمهرجانات وإطلاق التصريحات النارية والاستعراضية، ويقاتلون (في الفراغ)، ويعزمون على مصارعة هذا (الوحش) الخرافي القادم من بلاد الكاوبوي، وإسقاطه وعدم السماح له بالمرور!!
إن الإدارة الأميركية الحالية أكثر جهلاً وغباء من أن تقدر على صناعة هذه التحولات الاستراتيجية بمثل هذه الأدوات السطحية والتافهة. إن الأميركان – على وجه الخصوص ترامب- تتلبسهم حالة من العجرفة السياسية والوقاحة والوهم أنهم قادرون على صنع الخوارق واجتراح المعجزات، وأنه بإمكانهم فعل ما لم تفعله الإدارات الأميركية السابقة. لذا فإن ترامب يحاول أن يسوق نفسه على أنه (المسيح السياسي) الذي سينهي النزاع "الإسرائيلي-العربي للأبد، وأنه سيخلص العالم من شر "التطرف" الإسلامي وإيران، وأن مساعديه - جرينبلات وكوشنير- هما (هاروت وماروت) اللذان سيصلحان ما أفسده الدهر!!
السفير الأميركي السابق في مصر و"إسرائيل" دانيال كيتزر- في مقال تحت عنوان "وهم خطة ترامب للسلام"- قال: "لقد جعلونا (كوشنير وجريتبلات) نضع كل تركيزنا على خطة سلام قد لا تظهر أبداً".
إن أغلب الدراسات العلمية الأميركية تشير إلى أن ترامب شخصية استعراضية مولعة بحب الظهور، متلون، فوضوي، نرجسي، ويعاني من اضطرابات في شخصيته. يقول الكاتب الأميركي جونا جولدبرج في صحيفة (لوس أنجلوس تايمز): إن "تصرفات ترامب ليست مجرد أفعال بقدر ما هي منتوج لمستويات مذهلة من النرجسية والزهو".
(2) يفتقدون الإقناع والأدوات
معروف عن المنهجية الأميركية أنها تعتمد العنجهية و(عقلية الكاوبوي) في تمرير سياساتها، بغض النظر عن مدى مصداقية وواقعية ما تطرحه، لذا فإن كثيراً من تجاربهم منيت بالفشل، بدءاً من فيتنام، ومروراً بكوبا وجواتميالا، وانتهاء بالعراق وأفغانستان.
صحيح أنهم قادرون على التخريب وإسقاط أنظمة؛ لكنهم أعجز من تقديم الحلول ومعالجة الأزمات. إن سياسة الأميركان (التجارية) مع روسيا والصين، ونهج (العقوبات) مع إيران وحزب الله وحماس، وسياسة (العصا والجزرة) مع السلطة الفلسطينية، وسياسة (الترهيب) مع أنظمة عربية أثبتت –على مدار سنوات- أن الإدارة الأميركية تعمل على نحو (طائش) وغير مدروس.
ولأن إدارة ترامب فشلت فشلاً ذريعاً في جمع السلطة الفلسطينية و"اسرائيل" على طاولة التفاوض، فقد أرادت أن تعوض عقدة النقص هذه عبر عمل (انفرادي واستعراضي) تبين- من خلاله- أنها قادرة على تجاوز كل الأطراف، وطبخ الحلول في غرف مغلقة ومغلفة بغلاف السرية والتشويق.
أشبه بأفلام هوليود التي تحملك في النهاية إلى نتيجة غير متوقعة !!
إن إدارة ترامب الحالية تمثل الخليط العجيب بين العنجهية والغباء الفاضح والتي تعتقد أنها- بقدراتها المالية والعسكرية - وبجرة قلم يمكن أن تتجاوز الخطوط الحمراء، وتمنح "إسرائيل" كل ما تريده من اعتراف إقليمي وتفوق عسكري.
إن الإدارة الأميركية تفتقد إلى عنصرين مهمين لتمرير صفقتها المزعومة. أولاً: قدرتها على الإقناع، فالطريقة التي تسوق بها صفقتها يعتريها الكثير من (الهبل) الممزوج بالجهل بتعقيدات السياسة في الشرق الأوسط. إنهم أشبه بمن (يبيع الماء في حارة السقايين)، فالبضاعة خاسرة، والمشترون زاهدون، وحتى السلطة الفلسطينية التي ضربت نموذجاً في الامتثال لعملية السلام، والالتزام الحديدي بالمفاوضات، لم تستطع الإدارة الأميركية أن تغريها بأن في صفقتها ما يمكن القبول به.
الفلسطينيون- وبالرغم من خلافاتهم السياسية الكثيرة- أجمعوا على نحو قوي ومتماسك على رفض الصفقة؛ ما يعني أن هذا الجسد الهلامي خالٍ من العمود الفقري.
والعنصر الثاني: عدم امتلاك الأدوات التي تمكنها من فرض الصفقة، فلا العقوبات مجدية، ولا قوة السلاح ناجعة، ولا الابتزاز المالي قادر على شراء ذمم الشعوب!!
صحيح أن الإدارة الأميركية قد تجد في الأنظمة العربية من يتساوق معها؛ لكن هذا ليس دلالة على النجاح؛ لأن هذه الأنظمة أعجز من أن تسوق الصفقة وسط شعوبها بالطريقة التي يريدها الأمريكان.
(3) "إسرائيل".. سبقنا الصفقة بزمن!!
من يتابع الشأن "الإسرائيلي"- سياسياً وإعلامياً- يجد أن "إسرائيل" غير معنية كثيراً بصفقة القرن، ولا تعطيها الأولوية الكبرى في خطابها السياسي أو الإعلامي، إذ تعتقد أنها سبقت صفقة القرن- قولاً وعملاً- وبكثير من الزمن في شقين : السياسي والعملي.
سياسياً: أعلنت إنهاء حل الدولتين، وإلغاء حق العودة، وتثبيت أن القدس عاصمة لـ"إسرائيل"، وأن السلطة ليس أمامها إلا أن تقبل بحكم ذاتي محدود. وعملياً: طبقت الصفقة من خلال إجراءات مضى عليها سنوات، منها: "تسمين" المستوطنات وتمددها، والاستيلاء على الأراضي، وتحويل الضفة الغربية إلى كانتونات معزولة، وسلخ القدس عن الضفة، وفصل غزة جغرافياً وسياسياً، وإبقاء الحصار قائماً.
ما تحتاجه "إسرائيل" من وراء هذه الصفقة أمرين لا ثالث لهما: وضع (الدمغة) الفلسطينية الرسمية على الواقع الاحتلالي بأنه صار مقبولاً. وثانياً: تسويق نفسها وسط الخارطة العربية لتصبح دولة (شقيقة).
(4) الفلسطينيون : الخروج من الفراغ إلى العمل
لست أهون أو أبسط أو حتى أسطح قضية الصفقة - كما سيعتقد من يقرأ هذا المقال- لكنها قراءة الأمور من زاوية مختلفة، قد تكون مقنعة، وقد تكون غير ذلك.
أولاً: ينبغي ألا نشعر بالهلع والهوس الكبيرين من صفقة غبية غير ذات قدمين، وتحمل بذور فشلها في أحشائها.
ثانياً: يجب ألا يلهينا وهم الصفقة عما يجري على الأرض والذي هو أخطر بكثير مما نتصور. فإن أحد أهداف هذه الهالة النفسية الكبيرة إقناعنا بأن ما يجري من احتلال واستيطان ليس هو المهم بل ما سيأتي. قد تكون لعبة مدروسة أن يشغلونا بـ(الوهم) حتى نظن/ نخدع، كما خدعتنا "إسرائيل" بلعبة المفاوضات على مدار خمسة وعشرين عاماً.
احذروا الألاعيب الأميركية المصنوعة "إسرائيلياً"!!
إن القناعة الراسخة والقوية أنه إذا رفض الفلسطينيون شيئاً فإنه لن يمر.
بإمكان الأمريكان أن يعقدوا ورشة في البحرين، وأن يدعوا إلى مؤتمرات اقتصادية، وأن يستجلبوا (أشباه الرجال) إلى موائدهم السياسية الخاوية، وأن يعطوا وعوداً بسلام مشرق واقتصاد مزدهر، بيد أنهم لن يحصلوا إلا على سراب بقيعة!!
لقد مرت علينا في العقود الماضية عشرات المقترحات والتسويات والحلول، ويوم وقف الفلسطينيون أمامها فشلت وذهبت أدراج الرياح.
لا تخافوا، من دون موافقة فلسطينية لن يحدث شيء!!
المهم أن تكون جبهتنا الفلسطينية قوية غير قابلة للاختراق.
لا داعي للتكرار بأن واقعنا الفلسطيني مؤلم ومحزن ومخجل؛ بسبب الانقسام والشقاق السياسي اللذين يضربا عصب الوحدة الوطنية.
يجب أن يخرج الفلسطينيون من فوضى الاجتماعات والمهرجانات والخطابات والمقاتلة في (الفراغ) إلى مربع التخطيط العملي والاستراتيجي، ليس لمواجهة صفقة تافهة وعاجزة فقط، وإنما لاجتثاث الاحتلال برمته، وهذا لن يكون أبداً إلا بوحدة وطنية حقيقية مدعومة بموقف عربي.