إسلاميو الجزائر ومسارات الحراك
بعد العشرية السوداء وسيناريوهات الربيع العربي تغيّر وجه الحركة الإسلامية في الجزائر وباتت أكثر ميلاً للسلمية بعد أن جرّبت سوء المنقلب الذي يولّده العنف، لكن في نفس الوقت لازال واقع التشّظي الذي يطبع الحركة في خلافاتها الفكرية والأيديولوجية يمنع من التوحّد حول مشاريع سياسية واضحة.
في بلد المليون شهيد يخرج اليوم الجزائريون إلى الشوارع تعبيراً عن رفضهم للواقع السياسي في سياق دولي مختلف تماماً عن واقع الربيع العربي وسياقاته الإقليمية والعالمية. إلى أين تتجه الجزائر اليوم وماهي أهم العوامل المؤثرة اليوم في الحراك الشعبي؟ في هذه الورقة سنحاول البحث في بعض العناصر الأساسية المؤثرة في وضع الجزائر ومستقبلها:
الإقتصاد الجزائري:
بعد حال الإنتعاش الإقتصادي الذي صاحب ارتفاع مداخيل الدولة التي تعتمد على الصادرات النفطية بشكل كبير، تراجعت وتيرة النمو الإقتصادي في السنوات الأخيرة، إختارت حكومة بوتفليقة الوفاء لسياسة تقليص الدَين الخارجي و الإعتماد على الإستدانة الداخلية من البنك المركزي في ما يسمّى عادة (بالسحب على المكشوف).
حذّر البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في السنوات الثلاث الأخيرة الجزائر من مخاطر التضخّم التي تصاحب عمليات طباعة النقود وإقراضها داخلياً، لكن حكومة أويحيىى ظلت وفية لخطة بوتفليقة الرافضة للقروض الخارجية في الوقت الذي تضاعفت فيه نفقات الجيش طيلة العشر سنوات الأخيرة لتصل أزيد من 10 مليارات دولار في سنة 2017.
ربط صندوق النقد الدولي توصياته للجزائر باعتماد نظام "ضبط مالي" دقيق وموجّه وخاضع للمراقبة من أجل إيجاد بدائل جديدة لإنعاش الإقتصاد الجزائري الذي يعاني، فيما رأت الحكومة الجزائرية أن القروض من شأنها إرجاع الجزائر إلى وضعها السيّىء الذي نتج من إعتماد سياسات التقويم الهيكلي التي دعا إليها البنك الدولي منتصف التسعينات، حين أفلست مجموعة من المؤسّسات العمومية وتم بيعها.
في مقابل هذه الوضعية تعاني الجزائر من عدم وجود خطط إستراتيجية واضحة لإقتصاد بديل في مجتمع هرمه الديموغرافي الشاب، حيث تزداد نسب البطالة سنة بعد سنة في ظل الإعتماد شبه الكلي على مداخيل كتلة الأجور على العائدات النفطية في نظام إداري وإقتصادي لا زالت البيروقراطية الإشتراكية حاضرة فيه.
يرى الكثير من الخبراء الإقتصاديين خصوصاً منهم أولئك الذين يريدون من الجزائر أن تكون درساً لمخالفة "وصايا" صندوق النقد أن البلاد لن تخرج من المتلازمة الهولندية إذا لم تنخرط في المنظومة المالية الإقتصادية الدولية بقوّة أكبر.
الإسلاميون والداخل:
عرفت الإنتخابات الأخيرة تقلّص الدعم الشعبي للإسلاميين بكافة تلاوينهم، ورغم أن حركة حمس وغيرها من التيارات القوية سارعت إلى الطعن في نزاهة الإنتخابات البلدية التي فاز فيها الإسلاميون ب 60 من مجموع 1541 بلدية ، إلا أن قياديين بارزين في الحركة الإسلامية أكدوا أن الحركة الإسلامية (يجب) أن هناك تراجعاً حقيقياً يفرض على أنصار المشروع إعادة هيكلته وبنائه من جديد.
بعد العشرية السوداء وسيناريوهات الربيع العربي تغيّر وجه الحركة الإسلامية في الجزائر وباتت أكثر ميلاً للسلمية بعد أن جرّبت سوء المنقلب الذي يولّده العنف، لكن في نفس الوقت لازال واقع التشّظي الذي يطبع الحركة في خلافاتها الفكرية والأيديولوجية يمنع من التوحّد حول مشاريع سياسية واضحة.
قدّمت حمس في سبتمبر 2018 مسودّة التوافق الوطني التي يرى من خلالها هذا التيار البارز حلوله للخروج من الأزمة من خلال توصيف إقتصادي إجتماعي سياسي للوضع ولأرضية الحلول. ورغم أن هذه الورقة التي تضمّنت نقاطاً سبعاً أساسية تمثل أحد أهم المشاريع الوطنية المطروحة اليوم على الساحة، إلا أنها أغفلت جوانب أساسية في توصيف مسار الإنتقال.
شخّصت الورقة وضعية الإقتصاد الجزائري وانعكاسات الأزمة على المجتمع، لكن يبدو أن واضعي التقرير قد تأثروا إلى حد كبير بالضغوطات التي تمارسها المؤسّسات الدولية المالية على الجزائر. من جهة أخرى يرى المقترح الإسلامي أن الحلول مرتبطة أساساً بالتوصّل إلى رئيس توافقي، يقود مشروعاً سياسياً توافقياً.
هل سيظل المشروع التوافقي حاضراً عند الإسلاميين حتى عندما اعترف العسكر ضمنياً بأخطائه السياسية؟ أم ستتغلّب المصالح السياسية على المشروع الوطني؟ وهل يمكن أن يثق الإسلاميون اليوم بوعود المؤسّسة العسكرية الجزائرية الباحثة عن حلول عاجلة لحركية الحراك وحماسته؟ وهل سيسلم إسلاميو الجزائر من الأخطاء البرغماتية الفاشلة التي جنت على ربيع الإخوان في مصر؟
الإسلاميون و الخارج:
لقد أثبتت تجربة مصر أن التعويل على الدعم الخليجي والأميركي على حد سواء كان خطأ استراتيجياً جنى على المنطقة العربية وسهّل الورود على صفقة القرن وعلى تعميق الأزمات الداخلية العربية. وفي الجزائر يضاف إلى هذين العنصرين اللاعب الفرنسي الذي لن يرضى بتضرّر مصالحه في الجزائر خصوصاً مع ازدياد التنافس الأميركي الصيني الروسي على القارة السمراء.
يسارع "قناصو الثورات" اليوم إلى إعلان دعمهم للحراك، والذي يبدو أن الجميع يريد أن يصبح فيه "صديقاً للشعب الجزائري" على الأقل على مستوى البروبغندا السياسية، فيما يبحث الغرب والشرق عن القيادة الجزائرية الجديدة التي ستخدم المصالح في زمن الصفقات.
يغازل الفرنسيون كرامة الجزائريين التي تضرّرت بسبب صورة "القائد المريض"، ويبحث عرّابو صفقة القرن عن ملمس ناعم في بلد الإجماع على القضية الفلسطينية، حيث يفرح الجزائري حاملاً راية فلسطين ويحزن حاملاً رايتها في عصر "العلاقات الدافئة" و"السلام البارد" مع الكيان الصهيوني.
على صعيد آخر، تهاجم آلة البروبغندا المالية العالمية الأنظمة المتحصّنة بسيادتها الوطنية على نقودها واقتصادها، وتمارس ضغوطات قوية على هاته الدول التي فشل الكثير منها في تأسيس إقتصادات ناجحة وبديلة عن الثروات الخام والإستدانة التبعية الدائمة لمؤسّسات الإقراض الدولي.
هل سينجر الجزائريون إلى التركيز على من سيقود البلاد؟ والتنقيب عن مرشح توافقي داخلي وخارجي يرضي الشعب الساخط والعسكر والإسلاميين والبنك الدولي والدول الكبرى؟ أم سيناقش الجزائريون هذا الذي سيقودهم على أي مسار سيقودهم؟ وكيف سيخرجهم من كماشتي أزمة الاقتصاد النفطي والضغط الدولي؟ وكيف ستتم مواجهة الفساد المؤسّساتي داخل البلاد؟
من الأكيد أن تحالفات العسكر والإسلاميين التي تنسج اليوم سيكون لها تأثير كبير على مستقبل الحراك في الجزائر وعلى مسار الحوار الوطني. وفي مجتمع تبلغ فيه نسب الإدخار المنزلي المالي 31 في المئة، حيث يفضل الكثير من الجزائريين وضع أموالهم في بيوتهم، يبدو أن إنجاح المشاريع المالية التشاركية وإيجاد البدائل الإقتصادية قد يكون رهين تعبئة الشعب ومصارحة الشعب بالوضع الإقتصادي و الإنتقال نحو نظام مدني حقيقي يمارس فيه الجيش وظيفته الحمائية ويثق فيه السياسيون في إخوانهم الجزائريين أكثر من ثقتهم في الأجنبي.