الجزائر بخير..
في الجزائر رفض شعبي للظلم وللخروج بالسلطة عن مبادئ أول نوفمر 1954، نعم حراك والشباب ينظفون الأرض ويقبلون الشرطة، بل إن بعض المجروحين من الشباب المتحمس وأصيبوا في الزحام عولجوا في مستشفى الأمن الوطني، وهو ما يعبر بصدق عن التماسك الاجتماعي وفي الظروف المتأكلة.
دعني أقول وبكل أمانة أن الجزائر كلها وبكل أطيافها وعلمائها، ترقص وتغني في الشوارع ضد كل متربص بها من الداخل أم من الخارج بحراك شعبي متميز وأصيل.
انها فعلاً تعيش صيحات التاريخ من أجل المبدأ وعدم المساس بالثوابت والمبادئ، لأنها كلها جاءت من صلب التاريخ، والتاريخ ليس في صراع دئم مع الضعفاء، لقد حاول دعاة الشر في دول عدة تصوير هذه الأعراس على أنها انتفاضة ضد النظام بل وحتى ضد التاريخ، ولكنهم اخطأوا اليوم كما أخطئوا بالأمس لأنهم لا يعرفون حقيقة الشعب الجزائري وتاريخ مقاوماته الممتدة على مدى القرون.
تقول صحيفة لوموند الفرنسية "بالنسبة للأطراف الداعية إلى مقاطعة الانتخابات، على غرار حزبي المعارضة العريقين، التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية وجبهة القوى الاشتراكية، فلا تهدف المتظاهرين إلى رفض الولاية الرئاسية الخامسة فقط، وإنما تستجيب إلى مطلب ملح في التغيير"، وهي مخطئة بالتأكيد وداعية إلى التشرذم، فحزب الثقافة والديمقراطية التي تستدل به أسّس على ثقافة عرقية بل ومقرب من فرنسا، ولذلك لا شعبية له، بل إنه الآن مشتت، أو في حكم العدم، لقد استدلت به لأن فرنسا تاريخياً تريده في الواجهة لمصالحها ولمفاسدها أيضاً، فهي أول من دعت إلى العرقية "فرق نسد" ابان الحقبة الاستعمارية الفرنسية للجزائر بقيادة الجنرال "لاندو"، في محاولة منها لتشتيت الأمة ولكنها فشلت، فهل تتعظ صحف فرنسا من هزائمها في الجزائر بحيث لم تعد تقرأ أصلاً؟.
صحيفة "هآرتس" العبرية ربما ترد عليها هي أفضل، تقول إن "التوق لإبقاء بوتفليقة لولاية خامسة، هو أمر مشترك بين دول أوروبية، وبالأساس فرنسا وإيطاليا وإسبانيا التي تعتمد على النفط والغاز الجزائري"، وبالتالي فما دخل فرنسا في الموضوع "الحراك"؟ بل إنها من اليوم الأول للحراك أخرجت مناشيرها التي تدعي أنها سرية، ونشرتها بعض صحفها للإساءة إلى الجزائر، وقد وزعتها لاحقاً قناة روسا اليوم.
ويمكن أيضاً إضافة الموقف الأميركي إلى هذا التدخل المشين، قال المتحدّث باسم الخارجية الأميركية "روبرت بالادينو" للصحفيين: "نحن نراقب هذه التظاهرات" في الجزائر، وسنواصل فعل ذلك". أولاً هو حراك سلمي وليست مظاهرات. وثانياً هل تدخلت الجزائر في الحراك الدموي في فرنسا "السترات الصفر"، وقد كسروا أهم رموزها التاريخية؟، فضلاً عن الخراب الرهيب الذي أصاب المباني العامة والخاصة؟، وهل تدخلت في سياسة أميركا المبنية على العدوان مند ولادتها؟.
الجزائر شعباُ وحكومة يحترمان القيم الذاتية لكل الشعوب، كما تحترم التاريخ الذي هو ذاكرتنا أيام المحن وأيام الفرح. ربما الرد على هؤلاء بما قاله نيكولا دو سوسور الناطق باسم مستشفيات جنيف الجامعية، إن "محول الهاتف للمستشفى الجامعي بجنيف كان يتلقى ما معدله 3 آلاف مكالمة نسأل عن صحة الرئيس"، نعم الجزائري يؤمن بالتغيير ولكن ليس على حساب رموزه التاريخية، يختلف ولكن بمنطق علمي وحضاري وليس كما يجري في دول تدعي زوراً الأقدمية في الديمقراطية وهي ديكتاتورية ضد شعوبها، لننظر إلى سياسة ترامب العنصرية وعدائه الشديد للأقليات العرقية في أميركا، بل حرمانه أفرادها حتى من اللقاء مع أبنائهم وزوجاتهم.. !!
إذن، يخطئ من يعتقد أن الجزائر بالحراك الشعبي هي على طريق دعاة الربيع العربي المشؤوم، ويخطئ أيضاً من يعتقد أن أطرفاً أجنبية يمكنها اختراق هذا الحراك داخلياً أو خارجياً.
الجزائر بخير بحراكها الشعبي وجيشها الذي هو سليل المجاهدين، لذلك لا غرابة أن يصرح الفريق قائد صالح قائد الأركان ونائب وزير الدفاع: "لن نسمح بعودة البلاد لحقبة سفك الدماء".
ولا أظن أن هناك دولة في العالم مسها الحراك، وكانت في أمن وسلام مثل الجزائر، حتى في الدول التي تعتقد زوراً أنها من أعرق الدول الديمقراطية.
الشعب الجزائري لا يغضب ضد وطنه، بل لوطنه وشهدائه وتاريخه، إنه أيضاً يغضب للظلم وللظلم وحده، لأنه أبي ويعلم سر أمنه فيصحح بالسلم الخطأ في الظروف الحرجة، وبما يشبه النغم في الأفراح والأعراس.
وأعتقد أيضاً أن ما يجري من حراك اليوم في الجزائر، هو قمة الديمقراطية والحرية ولا مقاربة بينه وبين ما جرى من حراك في فرنسا وفي اميركا واسبانيا وايطاليا وغيرهم.
في الجزائر رفض شعبي للظلم وللخروج بالسلطة عن مبادئ أول نوفمر 1954، نعم حراك والشباب ينظفون الأرض ويقبلون الشرطة، بل إن بعض المجروحين من الشباب المتحمس وأصيبوا في الزحام عولجوا في مستشفى الأمن الوطني، وهو ما يعبر بصدق عن التماسك الاجتماعي وفي الظروف المتأكلة.
إنني اؤمن بأن الحرية التي صنعنها الجزائر هي من أعرق الحريات لأنها تمتد لقرون وبالمقاومة، واستشهد من أجلها الملايين من الشهداء. وإن الأمة التي أحضنت الفاتحين من الصحابة بحيوية أمة لا يمكنها أن تنزل إلى الشارع للفوضى، لا يمكنها أن تكون غوغائية مثل غوغائية فرنسا، أو مسيحية الإنجيليين الجدد في أميركا، ولعل مؤسس النهضة الرئيس الإمام عبد الحميد بن باديس، الذي أوصى بقوله في سؤال ذاتي "لمن أعيش؟ أعيش للجزائر والإسلام.. فإذا هلكت، فصيحتي تحيا الجزائر والعرب"، هي بالتأكيد حاضرة في كل بيت جزائري، ولا أظن أن هناك من يتجاوزها إلى اللعب بمصالح الأمة وتاريخ شهدائها. إن الوعي الديني والثقافي المتراكم في ضمير الأمة، وعي لا يمكن اختراقه ولا يمكن تجاوزه باتجاه غير ما يؤمّن للوطن سلامته ولأفراده الوئام التام.
هذا الوعي المكتسب من سنين المقاومة ولعدة قرون من الزمن، لا يمكن فصله عن الوعي العام الذي بدوره يحفر تاريخ الأمة إسلاماً وسلاماً، كما لا يمكن سلخه من النسيج الاجتماعي الوطني. إن أمة تزينت بالمقاومة وبشعار الحياة للجميع، أمة لا تنهض من رماد الخيال، بل تنهض وبقوة من صميم التاريخ .