اليمن وأبعاد البازار في قضية خاشقجي
والسؤال الخطير هو: هل فتح البازار منذ إعلان الجريمة أم أنه بازار تمت تهيئته منذ الاستعدادات لها، عبر نصيحة للرجل الذي ظن نفسه قائد رأي عام بالذهاب إلى تركيا، ونصيحة الأمير الموتور الجاهل بالتخلص من خصمه؟
في الجغرافيا السياسية هناك ما يسمى الماكروــ دولة وهناك ما يسمى الميكروــ دولة. وتتحدد الأولى بما يسمى عناصر السيادة (الجغرافيا، الديموغرافيا، التاريخ والثروة).
هذا هو الواقع الذي نشأ في العالم العربي نتيجة سايكس بيكو والإعلان البريطاني. واقع يؤدي باستمرار إلى حالة خطيرة: الكبير يشعر باستمرار أن من حقه ضم الصغير أو وضعه تحت جناحه، والصغير يخشى باستمرار من هذا الطموح ولذلك هو مستعد للتعامل ضده وحتى للتآمر عليه (الا من اندرج عميقا في الخط القومي).
معادلة لم يتوقف الغرب الاستعماري وحتى المشروع الصهيوني من اللعب عليها وبنجاح. لكن ربما يكون أخطر ما انتبهت له الدوائر ذات المصالح الحيوية في العالم العربي، والتي لا تريد تأمين هذه المصالح بالتبادل والندّية إنما بالهيمنة التي تشكل استمراراً غير مباشر للاستعمار، هو أن هذه الدول الماكرو قد تطمح الى أمرين: الأول قيادة قومية للمنطقة تحوّل الجميع إلى ماكرو كبير ليس في صالح أحد. والثاني أنها، بما تمتلكه من ثروات ومن موقع جغرافي وأحيانا من سياسات قد تحقق نمواً اقتصادياً يجعلها فعلا قوى فاعلة، بصرف النظر عن أنظمة الحكم التي قد تتغير يوماً هنا أو هناك أو عن المدة الزمنية التي يحتاجها ذلك ( فالدول والقوى تخطط لمئات السنين القادمة).
هذا إضافة إلى عنصر مهم أن "اسرائيل" قد وصلت منذ السبعينات إلى أن حلمها بأن تكون الدولة الكبرى في الشرق الأوسط أصبح مستحيل التحقيق عسكرياً. مستحيلاً. ولذا عليها العمل على التهويد الثقافي والسياسي مما يقتضي تفكيك واضعاف من حولها وخاصة الدول الماكرو.
من هنا بدا الأمر بالأكبر، مصر عبر كامب دايفيد والاقتصاد وشل الجيش، وانتقل الى العراق ومن ثم الى سورية وليبيا ـ مع ما لكل من هذه من خصوصيات ونواقص أمكن اللعب عليها- وبقيت الجزيرة العربية. ففي هذا الحيز الغني ثمة دولتان فقط تمتلكان عناصر السيادة هما اليمن والسعودية. حسناً تم ضرب الأولى بالثانية والآن جاء دور الغبي الذي ظن نفسه فاتحاً.
في هذا الإطار فقط يمكن قراءة رغوة الصابون الأسود التي نفخت حول مقتل خاشقجي. حادثة جرمية خطيرة ولكنها عادية في سجل الجرائم السياسية البشعة. والسؤال الخطير هو: هل فتح البازار منذ إعلان الجريمة أم أنه بازار تمت تهيئته منذ الاستعدادات لها،عبر نصيحة للرجل الذي ظن نفسه قائد رأي عام بالذهاب إلى تركيا، ونصيحة الأمير الموتور الجاهل بالتخلص من خصمه؟
منذ اليوم الأول تم اشغال الناس، كل الناس، بفيلم بوليسي مثير ومدروس برعت فيه وسائل الاعلام والسياسيين – وعلى رأسهم قناة الجزيرة كالعادة التي لا يُفسر إبداعها في هذا الضخ بعدائها للسعودية فحسب، وإنما على المحلل تجاوز ذلك إلى دورها في الخطة الأميركية ـ الإسرائيلية ـ التركية – وتحت هذا الاشغال كان من الواضح أن ثمة أموراً تطبخ بعناية: الصراع الأميركي الجمهوري ــ الديمقراطي قبل الانتخابات، الابتزاز التركي الذي جاءته الحادثة على طبق من ذهب (مما يثير أسئلة حول تغاضي أنقرة عن أمور كثيرة سهلت الازمة ومددتها)، تحجيم الانتصارات السورية وتأخير حسم إدلب، إحراج المحور السعودي ــ المصري ــ الإماراتي ( ما دفعه أكثر، باتجاه اسرائيل بمبادرات التطبيع التي يراهن عليها نتنياهو منذ فترة)، إنعاش الاخوان المسلمين الخ..
غير أن البعد الأهم الذي لاح منذ البداية هو أن حرب اليمن شارفت على الانتهاء. وإذا كان لا بد لكل الحروب من رجالها، فلا بد أيضا لمرحلة ما بعد الحرب العسكرية من رجالها. ارهاصات نهاية الحرب لم تأت سياسية واضحة وإنما أمكن قراءتها بسهولة من خلال تنبه الضمير العالمي فجأة الى المأساة الانسانية التي يعيشها اليمنيون. سواء على مستوى التنظيمات الشعبية والمثقفين والاعلام، أم على المستوى الرسمي الحكومي والأممي. كلهم تذكروا أطفال اليمن (سبحان الله!!!) حتى الدول التي تبيع الأسلحة لمحمد بن سلمان لقتل أهل اليمن وتدميرها، والتي تزوّده بالمعلومات والإحداثيات لتوجيه ضرباته.
ذكرت صحيفة لو فيغارو –مثلا- التي تملكها شركة الصناعة العسكرية الفرنسية ( داسو)، أن الاقمار الفرنسية كانت تزوّد أحمد العسيري برصد أقمارها لتحركات الحوثيين في اليمن وأن الرجل أراد رد الجميل بشراء بلاده لقمر اصطناعي من فرنسا، ما أغضب الاميركيين، فأصبح الرجل المتهم الأول في قضية خاشقجي. لكن الأمر أبعد من ذلك، العسيري كان وجه الحرب اليومي طيلة سنوات، والانتقال إلى السلم يقتضي إزاحته والمجيء بوجه آخر .
وعندما نضجت الامور خرج بومبيو ليعلن مقترح وقف إطلاق النار والذهاب الى المفاوضات، لتعزف أوركسترا الدول الاطلسية كلها النوتة ذاتها. ولن يغير في الأمر شيئاَ اذا بقي محمد بن سلمان، رجل العاصفة، أم ذهب لتأتي صورة أخرى يتم تسويق ملامحها حسب المرحلة الجديدة.
المهم أن الشركات العولمية التي باعت السلاح للتدمير تريد إنهاء الحرب، للبدء في الاستثمار في إعادة الاعمار والممول واحد. وأن الاستراتيجيات السياسية التي مهدت الساحة بدمار وانهاك الحرب تنتقل إلى مرحلة تحقيق ما تريده عبر المفاوضات.
ككل حروب التاريخ، يسبق الاقتصاد والسياسة الحرب العسكرية ومن ثم يليانها. فبعد الحرب الكبرى، كانت الحرب الباردة. وغداً قد تنتهي الحرب السورية واليمنية معاً ويأتي أمير "محب للسلام" في السعودية. لكننا سندخل في مرحلة أكثر حدة وصعوبة عناوينها: التقسيم، الفدرلة، أو الحكم الذاتي، تكريس الهويات الفرعية من طائفية وإثنية على حساب الهوية الوطنية الجامعة. لبرلة الاقتصاد بشكل يعطل اقتصاد الانتاج لصالح اقتصاد الاستهلاك والتبعية، وهيمنة الشركات المتعددة الجنسيات، أو بعض الشركات الرأسمالية الوطنية الغربية، على مرحلة إعادة الاعمار وبالتالي على الثروات الطبيعية، سواء منها ما تعلق بالأمن الاقتصادي أو ما تعلق منها بالموقع الجغرافي الاستراتيجي.
في حين سيستمر ابتزاز السعودية بشكل متواصل إلى أن تصل إلى الانهاك وربما إلى التفكك. خاصة وأن اسرائيل قد تمكنت – تحت هذا الغبار من حقد وجهل وعمالة - من الدخول المعلن إلى الخليج، لتتحقق معادلة شيمون بيريز: الثروات العربية واليد العاملة العربية مضافة إلى العقل الاسرائيلي (في التخطيط والتكنولوجيا والاستثمار) لبناء شرق أوسط جديد يتحقق فيه التهويد الاقتصادي والثقافي والسياسي الذي يحول العرب إلى عبيد.
وصولاً إلى مقولة بيغن الشهيرة يوم توقيع كامب دايفيد: "حتى لو حصل السلم بين اسرائيل والعرب، سيظل الصراع بين الحضارتين قائماً إلى أن تقضي إحداهما على الأخرى".