أوروبا بين مطرقة إيران وسندان ترامب

المُتغيّرات السياسية الجديدة المُتسارِعة في أوروبا ومنطقة الشرق الأوسط والتي مثّلت مُحدّدات أساسية في توجيه الأدوار الاستراتيجية والمصالح الجيوسياسية للسياسات الأوروبية والأميركية لفتراتٍ طويلةٍ سابقة، بدأت في التحوّل العميق لتأخذ منحى جديداً وغير متوقّع، فارضة بذلك مزيداً من التحدّيات المباشرة والتي تستوجب اتّخاذ قرارات جريئة.

وإلى أي مدى ستدعم أوروبا إيران؟ وما هو الثمن المُستعدّة أوروبا لدفعه؟

يستمر دونالد ترامب في نهج دبلوماسية تعتمد على سياسة ليّ الذراع ضارباً عرض الحائط انتقادات المجتمع الدولي رغبته بنقض الاتفاق النووي، ومتجاهلاً بذلك مواقف الشركاء الآخرين الموقّعين على هذا الاتفاق.

في حين كانت إيران تحترم التزاماتها وبشهادة كل لجان المراقبة بما فيها اللجان التابعة للأمم المحتدة، كان دونالد ترامب يخاطر بمصالح بلده بل وتعدّاها ليُجبِر الموقّعين الآخرين على الصمود أو المعارضة. 

لم تُظهِر الصين وروسيا أية مرونة للتماهي مع أهواء الإدارة الأميركية، فماذا عن موقف الأوروبيين؟

ثمرة الدبلوماسية الأوروبية

نميل إلى نسيانها؛ لكن الصفقة النووية الإيرانية هي نتيجة لجهود الدبلوماسيين الأوروبيين أو الدبلوماسيين البريطانيين والألمان والفرنسيين بالتنسيق مع مفوضة الشؤون الخارجية "فيديريكا موغيريني".

وبفضل الصفقات الدبلوماسية المُكثّفة، تمكّن الأوروبيون من إعادة إيران والولايات المتحدة إلى طاولة المفاوضات لوضعِ إطارٍ لبرنامج إيران النووي، وبالتالي إزالة الألغام وتخفيف التوتّرات على أبواب القارّة الأوروبية من خلال نسف الصفقة مع الإيرانيين، يظهر دونالد ترامب مدى استخفافه بعلاقته مع أقرب حلفائه حينما يُدمِّر سنوات من الجهود الدبلوماسية. الأسوأ من ذلك أن الرئيس الأميركي لا يكتفي فقط بإخراج بلاده من الصفقة، لا بل ويُعيد فرض أشدّ العقوبات ضدّ إيران على أساس قوانين تسمح بفرضِ عقوباتٍ خارج الحدود ضدّ أية شركة تعمل بالدولار أو مع إيران.

أوروبا، ضحيّة جانبية

البلدان الأوروبية وشركاتها التي استثمرت بكثافة في إيران (فرنسا تضاعفت تجارتها ثلاث مرات مع طهران منذ توقيع الاتفاق) تضرّرت بشدّة. بالنسبة إليهم؛ فإن الاختيار الذي يفرضه الأميركيون يمكن تلخيصه في ما يلي:

إما أن تنسحبوا من إيران، أو إننا سنفرض غرامات مالية ثقيلة على عملكم ونشاطاتكم التجارية، بالإضافة إلى حظر شركاتكم عن القيام بأية تجارة ومنعها حتى من الردّ على أية مُناقصة عامة في الولايات المتحدة. وبما أن الولايات المتحدة تُعتبَر سوقاً مهمة للشركات الأوروبية، فإن القرار كان المفروض له أن يتّخذ بسرعة بين الأسواق الناشئة مع إيران أو تحقيق أرباح كبيرة في الولايات المتحدة.

لكن..

المُتغيّرات السياسية الجديدة المُتسارِعة في أوروبا ومنطقة الشرق الأوسط والتي مثّلت مُحدّدات أساسية في توجيه الأدوار الاستراتيجية والمصالح الجيوسياسية للسياسات الأوروبية والأميركية لفتراتٍ طويلةٍ سابقة، بدأت في التحوّل العميق لتأخذ منحى جديداً وغير متوقّع، فارضة بذلك مزيداً من التحدّيات المباشرة والتي تستوجب اتّخاذ قرارات جريئة.

شبكة المصالح بدأت بالتغير مع ظهور قوى كبرى على المستويين الاقتصادي والعسكري:

الصين شرقاً كقوّةٍ اقتصاديةٍ وروسيا كقوّةٍ عسكرية تسعيان لكَسْرِ هيمنة القُطب الواحد وخلق نموذج عالمي جديد ومُتعدِّد الأقطاب.

في حين أخذت أوروبا دوراً محورياً كانت تلعبه ضمنياً إلى أن ظهر وبصورة أكبر وأكثر شمولية ونضجاً أمام الأحداث الكبرى التي يشهدها العالم منذ النصف الأخير من العقد الحالي.

في سياق هذه التغيّرات؛ هل مازالت أميركا تحتلّ موقعها الريادي في توجيه مسارات الأحداث والتحكّم في المصالح العالمية الكبرى؟ أمْ بدأ دورها يتراجع تدريجاً بفعل تكتّلات قوى محورية جديدة لا تستطيع القوّة الأعظم في العالم تجاهلها، السيطرة عليها أو على الأقل القفز عليها وتطويعها بما يتماشى مع مصالحها.

مثَّل الاتفاق النووي الإيراني جوهر المشكل الأساسي لأميركا، فهي التي وقّعته إجماعاً بعهد أوباما وهي التي نقضته أحادياً وتراجعت عنه في عهد ترامب.

فما بين الاتفاق ونقضه تسارعت وتيرة الأحداث والمشاكل بين قوى كبرى لا تقلّ أهمية عن الولايات المتحدة.

من جانب الشركات الأوروبية؛ لم ننسَ أيضاً أن الإدارة الأميركية كانت لها اليد الثقيلة عندما يتعلّق الأمر بمُعاقبة الشركات الأوروبية.

نتذكّر BNP التي تمّ تغريمها 6.3 مليارات دولار أو حتى Société Générale، التي كان عليها أن تفصل أحد كبار المدراء التنفيذيين لديها لتتمكّن من مواصلة نشاطها في الولايات المتحدة الأميركية. وقد لوَّح الأوروبيون بقرار إنشاء كيان خاص (special purpose vehicle) (SPV) لمواصلة التجارة مع إيران، بما في ذلك شراء النفط، وبالتالي التهرّب من العقوبات الأميركية، كما أعلنت مؤخّراً في الأمم المتحدة (UN) رئيس دبلوماسية الاتحاد الأوروبي "فيديريكا موغيريني".

المال أو السلطة؟

إيران لا تأمن جانب أوروبا لكن عندما تتقاطع المصالح تظهر التحالفات والتوجّهات آنيّة كانت أمْ دائمة، وحتى لو لم تكن استراتيجية، لكنها في أغلب أحيانها منطقيّة لمَن يتبنّاها!.

ويبقى البُعد الاقتصادي وحجم التبادُلات التجارية بين إيران وأوروبا وبين الأخيرة وأميركا، البُعد الأكثر أهمية في تحديد التوجّهات حيال هذا الملف.

وإلى أي مدى ستدعم أوروبا إيران؟ وما هو الثمن المُستعدّة أوروبا لدفعه؟

قد تخوّل اللوائح الأوروبية لعام 1996 توفير الحماية القانونية للشركات الأوروبية التي ستستمر في التجارة مع إيران، لكن المفوضية الأوروبية، تعترف بأن فعالية هذه اللائحة تظلّ "محدودة".

كانت أميركا ولازالت البلد الأكثر استفادة من التحالف الاستراتيجي مع أوروبا فهل ستضحّي بهذا التحالف؟