بعد الأهواز حرب مفتوحة ضدّ الجماعات التكفيرية

إن أشدّ تحدّ تعيشه إيران عربياً يكمن في إمكانية إبراز صورتها الحقيقية التي هي عليها بالفعل قبل أن تنشغل في الترويج لنموذجها في الحكم. فلا يسعها هنا، والحال هكذا، إلاّ أن تسعى بمقاربة مختلفة أو خلاقة، بعيدة عن تلك المقاربات التي اعتمدتها في العقود الماضية.

توظيف أميركا للفكر الوهابي الجهادي بشكل عام كان أساسياً في استراتيجية الغرب لاحتواء الروس

لي صديق يشتغل بالفلسفة وقد جمعتنا قبل شهرين تقريباً ندوة ضمّت عدداً من الباحثين لمناقشة خلفيات التأزم في العلاقات السّنية الشّيعية في العالم العربي وكيفية الحدّ منها. لمّا حانت مداخلته، وصف العلاقة بين الطائفتين بأنها أشبه باستفراغ التاريخ لما في بطنه من تقيّحات ودمل التي اعتملت في جوفه قروناً دون أن يشفيها الزمن.
لن أجاري صديقي في مذهبه ذلك، لأني ما زلت اعتقد أن الخلاف المفجّر للصراع أو التأزم هو في مضمونه وأبعاده سياسيّ بحت، يتم استدعاء التاريخ لمنح الصراع وجاهة، ومبررا أخلاقيا، وديمومة أطول.
ما حملني على تذكّر كلام صديقي آنف الذكر هي الأخبار الواردة من إيران التي تتحدث عن قصف الحرس الثوري الإيراني بصواريخ بالستية لمواقع إرهابيين في سوريا رداً على اعتداء الأهواز الذي راح ضحيته أربعة وعشرون فرداً من القوات المسلحة الإيرانية في عرض عسكريّ.
جهة أهوازية متمردة تبنّت العملية قبل أن يعلن داعش رسمياً على لسان المتحدث باسمه المسؤولية عن الهجوم، عارضاً صور ثلاثة أفراد من منفذيّ العملية.
بكل الأحوال، المعتدون كانوا من أصحاب الفكر السلفيّ الجهادي أو الفكر التكفيري. والردّ الإيراني كان ضدّ مواقع تلك التنظيمات المتطرفة في عملية هي الثانية من نوعها ردّاً على اعتداءات سبق لتنظيم داعش أن نظّمها ضدّ مرقد الإمام الخمينيّ وبعض المواقع الحساسة في البلاد.
هذه الحرب المفتوحة بين إيران والجماعات التكفيرية تنسف كلّ السرديّة الأميركية الخليجية التي تروّج منذ سنوات أن هذه التنظيمات هي صنيعة إيرانية لضرب استقرار النظم العربية في المنطقة. فالكلام العربيّ الرسميّ عن علاقة ما بين الطرفين لا يصمد أمام البحث الموضوعي بتاتاً.
فأنّا لهذه العلاقة – إن صحّت- أن تحمل الجهادية السلفية على تكفير عموم الشيعة؟ كيف لهذه العلاقة أن تكون قائمة والهجمات التي تشنها تلك الجماعات في إيران والعراق وسوريا ولبنان وغيرها هي ضدّ المناطق الشيعية تحديداً؟ وكيف نوفق بين هذا المنطق وسرديّة تنظيم داعش الذي يقدّم قتال إيران على إسرائيل، لأن الأخيرة كفرها ظاهر بيّن، وإيران كُفرها ضامر مستتر؟
توظيف الولايات المتحدة الأمريكية للفكر الوهابي الجهادي بشكل عام كان أساسياً في استراتيجية الغرب لاحتواء الروس وإبعادهم عن أفغانستان في الثمانينيات، إلاّ أنّ هذا التحالف ما لبث أن ارتدّ على واشنطن وحلفائها الغربيين والعرب مع عودة ما يسمّى بالأفغان العرب إلى بلدانهم.. نتذكر هنا موجة التفجيرات التي طالت لندن ومدريد منتصف التسعينيات، وكذا الاضطرابات التي شهدتها عدّة دول عربية. ما من شك أن إيران هي في حرب مفتوحة مع الفكر السلفي الجهادي منذ عقود، تماشياً مع الصراع الخليجي الإيراني بعيد نجاح الثورة الإسلامية في إيران.
لقد ساعدت الأيديولوجيا الوهابية في تعبئة الجمهور العربي ضدّ إيران في الحرب العراقية الإيرانية التي دامت ثماني سنوات. وكان للفكر الوهابي دور أساسي في احتواء إيران وعزلها ومنعها من تصدير ثورتها إلى المجتمعات العربية. وبذلك حافظت المَلكيات العربية على نفسها حين راحت تلك الأيديولوجية تروّج لضلال وانحراف وكفر الشيعة الجعفرية.
وما كانت لتلك الأيديولوجيا أن تتحرك في المجتمعات الخليجية لو لم يكن هناك ضوء أخضر رسمي بدعم مشروعها. ولم يتوقف نجاحها عند ذلك الحدّ إذ اخترقت الشارع السّني العريض عربياً بعد عزل الأزهر بموت عبد الناصر وإخراج السادات لمصر من دائرة الصراع العربي الإسرائيلي.
عضّد من هذه النجاحات فشل عمليات التقريب بين المذاهب التي تبنّاها الجامع الأزهر ودعمتها إيران في الحدّ من التدهور في العلاقات السنية الشيعة، رغم مضي عقود على المؤتمرات الجامعة بين الطائفتين، وتجويز الجامع الأزهر التعبّد بالمذهب الجعفري الإمامي كواحد من المذاهب الإسلامية المعترف بها لديه.
ظلّ الشارع العربي أسير التصورات والأحكام المسبقة التي روّجتها الأطروحة الوهابية والسلفية بمباركة من الملكيات العربية في تشكيل وهندسة الوعيّ السنيّ الجمعيّ تجاه إيران والشيعة العرب بشكل عام. ولا زالت تلك المقاربة معتمدة حتى يومنا هذا.
إن ممّا يُحزن له أن هذه السردية، اختزلت المسافة بين إيران الدولة والفكر الشيعي، ونجحت في خلق تماهي بينهما، فلا يمكن للعقل العربي اليوم فهم إيران الدولة دون ربطها بما يختزنه عقله من تصورات موروثة عن الشيعة قديما وحديثاً، كما لا يمكنه فهم الشيعة العرب إلا في إطار فهمه لإيران الدولة أيضا.
وفق هذه المعادلة تُحمّل إيران الدولة مسؤولية ما يختزنه العقل الجمعي السني المتأثر بالفكر الوهابي عن الشيعة تاريخياً، ويحمّل الشيعةُ العرب مسؤولية ما قد تقوم به إيران في علاقاتها مع محيطها العربي والإسلامي. جاءت الأزمة السورية، فزاد الشرخ القائم بين إيران والشارع السنيّ، خاصّة بعد أن ساءت علاقاتها مع تيار سنّي عريض هو تيار جماعة الإخوان المسلمين.
هذه الحرب الثقافية المفتوحة بين إيران والإيديولوجيا الوهابية ومن يقف خلفها تستنزف طاقة إيران والمنطقة، وتزيد من الفتق في العلاقات العربية الإيرانية على خلفيه مذهبية. ورغم كل ما تبذله إيران من جهد لإصلاح الصورة النمطية عنها يبقى لمنطق استعداء إيران الكلمة العليا في المنطقة طالما أن بعض النظام العربي الرسمي يريد ذلك، وطالما أن الفكر الوهابي ما زال ولاّداً.
إن الاستعراض العسكري الإيراني وحده في سوريا - على شرعيته في ردّ العدوان- لا يكفي لمواجهه هذه الظاهرة التكفيرية، لأن الأمر ليس مرتبطاً بموازين عسكرية ولا بمليشيات مسلحة معزولة اجتماعياً وسياسياً، وإنما بفكر له امتداد تاريخي واجتماعي في بنية المجتمع العربي الأمر الذي يضع إيران أمام حواجز مصطفّة خلف بعضها، تحول دون تمكينها من إظهار صورتها الحقيقية في العالم العربي، فضلاً من بناء جسور التواصل مع المجتمعات العربية السنية.
إن أشدّ تحدّ تعيشه إيران عربياً يكمن في إمكانية إبراز صورتها الحقيقية التي هي عليها بالفعل قبل أن تنشغل في الترويج لنموذجها في الحكم. فلا يسعها هنا، والحال هكذا، إلاّ أن تسعى بمقاربة مختلفة أو خلاقة، بعيدة عن تلك المقاربات التي اعتمدتها في العقود الماضية.