دماء على جُدران الكنيسة والجلباب الأسود
لقد أحدث هذا صدمة في الضمير الشعبي المصري، لأنها أول جريمة تحدث داخل دير، وربما من نوادر عمليات محاولات الانتحار بين رهبان المفترض فيهم أنهم عزفوا عن الدنيا كلها.
تُعتَبر الكنيسة المصرية الأرثوذكسية جزءاً لا يتجزّأ من النسيج الوطني المصري، وما يحدث داخلها يهمّ كل المصريين، وكان البابا الراحل "شنودة الثالث" يقول: "مصر وطن يعيش فينا أكثر مما نعيش فيه"، مع التأكيد على أنه يوجد مصريون كاثوليك وبروتستانت، ولكنهم أقلّية داخل المجتمع القبطي، وفي النهاية الجميع مواطنون مصريون، ولكن نخصّ الكنيسة الأرثوذكسية لأنها هي الكنيسة الأمّ لمصر، وهي أقدم كنائس العالم، حيث وصلها القدّيس مرقس مبكراً، ومنها جاء نظام الرهبَنة الذي انتشر في ما بعد في كل الأرض، وما يحدث في الكنيسة الأمّ يؤثّر في الجسد المصري.
ولذلك، ارتاع المصريون عندما أعلنت الحكومة المصرية والكنيسة الأرثوذكسية، في يوم الأحد 29 تموز/يوليو 2018، مقتل الأنبا إبيفانيوس(الأنبا يعني المقدّس)، أسقف ورئيس دير مقاريوس في وادي النطرون، والغريب ما حدث في يوم الإثنين 6 آب/أغسطس 2018، حاول راهبان في الدير نفسه الانتحار في حادثين مُنفصلين، في أحدث ما تلا مقتل الأنبا إبيفانيوس، أقدم الراهب "أشعياء المقاري" على الانتحار بتناول مادة سامة، بعد قرار الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تجريده من رهبنته وعودته لإسمه الأصلي "وائل سعد"، كما أقدم على الانتحار الراهب "فلتاؤس المقاري" بقطع شريان يده، ثم إلقاء نفسه من أعلى مبنى مرتفع في الدير، وذلك بعد أن استجوبته الأجهزة الأمنية والقضائية في مقتل "الأنبا إبيفانيوس".
وآخر الأنباء الأولية هو أن الراهب المشلوح(المخلوع) أشعياء المقاري هو القاتل، وقال: "الهدف من وراء قتل رئيس الدير هو إشعال الفتنة داخل الكنيسة، لأن الراهب المقتول قيمة روحية، كما أرشد الراهب عن محرّضيه في هذه الجريمة، وسوف تكشف الأيام المقبلة أسماءهم"، وهو أغرب ما حدث في الكنيسة الوطنية المصرية، أن يقتل راهب رئيساً لدير، ونعتقد أن الأمر مرتبط بمشروع الصهيونية العالمية بإشعال الفِتَن حتى داخل الأديرة والكنائس المصرية، ولذلك يحاول البابا تواضروس الثاني أن يحافظ على البيت القبطي والكنيسة، فقام بالتصديق يوم الأحد 5 آب/أغسطس 2018، على قرار تجريد الراهبين من الرهبانية، وعودة كل منهما لإسمه العلماني "لارتكابهما مخالفات رهبانية"، حسب ما تم إذاعته من قِبَل الكنيسة رسمياً.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد أصدرت لجنة الرهبنة وشؤون الأديرة في المجمع المقدّس، برئاسة البابا تواضروس الثاني، الخميس 2 آب/أغسطس 2018، عدّة قرارات مهمة، منها وقف قبول رهبان جُدُد في جميع الأديرة التابعة للكنيسة الأرثوذكسية داخل مصر، ومحاسبة الرهبان الذين يظهرون في أية وسيلة إعلامية، ووقف سيامة (تعيين) الرهبان في الدرجات الكهنوتية لمدة 3 سنوات، وأشاد القمّص (يعني رئيس الدير) صليب متى ساويرس، كاهن كنيسة مار جرجس في حيّ شبرا بالقاهرة، أن القرار بمثابة تقييم لحياة الرهبنة، لأن حياة الرهبنة "عفة ونُسك" والراهب الذي ينضم للحياة الرهبانية انقطع تماماً عن العالم الخارجي، ولكن حدث من بعض الرهبان أن وعظوا من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، وصار لهم مُريدون من خارج الأديرة، وهو ضد الرهبنة حتى لو كان للوعظ، فالرهبنة انقطاع كامل عن العالم، وكل هذا يدفعنا إلى القول بأنه يوجد بعض الخَلَل عندما سمحت الكنيسة للرهبان التوجّه للدنيا من خلال "الأنترنت"، فالدنيا تغري حتى المؤمنين، وقد يُذكّرنا ذلك بما حدث من خلاف بين "البابا شنودة"، و"الأب متى المسكين"، في عامي 1980 و1981، ولكنه كان خلافاً دينياً يفهمه الرجلان، ورغم أنه خلاف راقٍ، إلا أن الرئيس أنور السادات قام بعزل "شنودة"، وتعيين لجنة برئاسة "متى المسكين"، ولكن الوضع عاد إلى طبيعته بعد "أنور السادات"، والأمر حالياً مختلف، هناك جريمة قتل حدثت في الدير، ومحاولة راهبين الانتحار ما يخالف التعاليم الكنسية، ولا يمكن الزعم بالربط بين جريمة القتل وجريمة الانتحار، حتى يتم استكمال عمليات البحث عن الجاني، ولكن الكنيسة رأت أنه يجب تطهير الوجدان الرهباني من خلال منع الرهبان من الاتصال بالدنيا، فلا يروها ولا تراهم، وأعطتهم مهلة لغلق كافة وسائل الاتصال بالعالم الخارجي من خلال "الفايس بوك" و"تويتر" وغيرهما.
لقد أحدث هذا صدمة في الضمير الشعبي المصري، لأنها أول جريمة تحدث داخل دير، وربما من نوادر عمليات محاولات الانتحار بين رهبان المفترض فيهم أنهم عزفوا عن الدنيا كلها، كما أن الدولة المصرية والمنطقة كلها في حربٍ ضد الإرهاب، نجت مصر منها، ويوجد من يحاول خلخلتها بإحداث أية فتنة، بين المسلمين والأقباط، أو في داخل البيت القبطي أو البيت الإسلامي.
بقي أن نعرف أن الارتباط الإسلامي المسيحي في مصر يُوجد منذ القِدَم، منذ اعتنقت أغلبية الشعب المصري الإسلام ديناً، فمثلاً الفلّاحون المصريون جميعاً يعتمدون على التقويم القبطي المصري في مواسم زراعة الأرض وحصادها، ويحتفل المصريون كلهم بمواليد أهل البيت المدفونين في مصر، مثل الإمام الحسين والسيّدة زينب والسيّدة نفسية والسيّد البدوي، كما يحتفلون جميعاً بمولد القدّيسة دميانة في مدينة "بلقاس" شمال مصر، ومار جرجس ومار مرقس وغيرهم، كلهم يتبرّكون بمَن تقدّست أسماؤهم، صحيح أنه حدث ميل في تلك العلاقة من حوالى أربعين عاماً بسبب الغزو الوهّابي لمصر، ولكن دائماً وعند الخطر يتوحّد الجميع.
والتقويم القبطي الذي يعتمده المُزارعون والفلاحون بدأ عام 284 م، وهو العام الذي بدأ فيه عصر الشهداء، وحالياً نحن في عام 1734 قبطي، وعصر الشهداء حدث في عصر دقلديانوس (245 م – 305 م)، وهو العام 284 عينه، الذي اعتلى فيه دقلديانوس العرش الإمبراطوري في روما، وفي عام 286 م. أشرك مكسيميان معه في الحُكم ليكون إمبراطور الشرق ومنذ ذلك الوقت ذاق المسيحيون المصريون الاضطهاد الذي يفوق الخيال، قَتْل العذارى ورجال الدين، وهَتْك الأعراض وهَدْم الأديرة والكنائس، وصل لعشرات الآلاف من الشهداء، وبدأ التقويم القبطي في ذاك العام، ويقوم المصريون بإضافة خمسة أو ستة أيام للتقويم القبطي لكي يتوافق مع التقويم الشمسي، وهو تقويم مُعتَمد رسمياً في الدولة، وبالطبع داخل الكنائس المصرية، وعندما دخل الإسلام مصر، اعتنق أغلب المصريين بالتدرّج الإسلام كدين، ومن لم يعتنق الإسلام تعرّب لغة، فصار الجميع مصريين وعرباً، والمدهش هو تعاطف رهبان مصريين مبكراً مع محمّد بن أبي بكر في حربه مع عمرو بن العاص، فقاموا سراً بنقل وإخفاء رفاته إلى جوار كنيسة مار جرجس على ضفة النيل الغربي بقرية "ميت دمسيس"، في شمال مصر بالقرب من مدينة المنصورة، وظلت رفات إبن أبي بكر في مكانها حتى تم التعرّف عليه وبناء مسجد عام 1951، ومازال مسجد إبن أبي بكر وكنيسة ما جرجس يزورهما الجميع .
ولكل ذلك فإن ما يحدث داخل جدران الكنيسة يؤثّر على مصر الوطن والإسلام، تماماً مثل ما يقوم به الأزهر الشريف في دعم الوحدة الوطنية، حمى الله الكنيسة والأزهر وكل المسلمين وكل الإنسانية ضد كل قوى الاستعمار والصهيونية...