تعثُّر تأليف الحكومة اللبنانية... يُبرِز أزمة النظام السياسي
من دون خطوات إصلاحية جذرية لبُنية النظام السياسي، ستبقى الأزمات الحكومية تتناسل وستبقى الاشتباكات الطائفية قائمة بسبب المُحاصَصة ومُطالبة كل طرفٍ بأكبر حصّة له ظنّاً منه أن هذا يُشكّل عامل اطمئنان لديه على المستقبل.
يقود تكرار المصاعب أمام تشكيل حكومة جديدة في لبنان، إلى تسليطِ الضوء مُجدّداً على أزمةِ النظام السياسي برمّته. والطريق المسدود الذي تواجهه القوى والأحزاب اللبنانية في مسارِ تأليف الحكومة بعد أكثر من شهرين ونيّف على الانتخابات البرلمانية على أساس القانون النسبي المُطعّم بالصوت التفضيلي، هو أحد إفرازات نظام المُحاصَصة بين الطوائف أولاً، ومن ثم داخل كل طائفةٍ ومذهبٍ وداخل القوى السياسية التي تتشكّل منها هذه الطائفة أو ذلك المذهب.
وزاد من تعقيدات المشهد السياسي الحالي، أن القانون الانتخابي الذي فصّلته القوى المُمسِكة بزمِام النظام منذ اتفاق الطائف وحتى الآن ، وتلك التي انخرطت في هذا النظام بعد عام 2005، أدّى إلى نتائج سمحت للأحزاب والكتل، الادّعاء بأحجامٍ تفوق تمثيلها الشعبي الحقيقي. وعلى سبيل المثال وفي سياقِ ذهنيّةِ المُحاصَصة السائِدة، يُطالب حزب القوات اللبنانية بعددٍ من المقاعد الوزارية يُماثِل العدد الذي سيحصل عليه التيار الوطني الحر، ذلك لأن نتائج الانتخابات أعطت القوات 15 مقعداً في المجلس النيابي، أي ضعف العدد الذي كانت حصلت عليه في انتخابات 2009. وتذهب القوات إلى طرح مُعادلة الثنائية المسيحية على غِرار الثنائية الشيعية بين حركة أمل وحزب الله. واسشتعرت القوات بعد الانتخابات أن قوّتها الشعبية باتت مُساوية لتلك التي يتمتّع بها التيار الوطني الحر، وهي تنطلق في حساباتها من أن التيار الوطني الحر حصل على 18 مقعداً حزبيّاً مُلتزماً على غير ما يعلن التيار من أنه حصد 29 أو حتى 30 نائباً في الانتخابات.
هذا ما يُسمّى العقدة المسيحية في أدبيّات السياسة اللبنانية. لكن العقدة تخفي خلافاً على المُحاصَصة من جهة، وتضمر انطلاق معركة مُبكِرة حول مَن هو "المسيحي القوي" الذي سيكون مؤهّلاً بعد أربعة أعوام للقول إنه الأجدر بالترشّح للرئاسة، سمير جعجع أم جبران باسيل. وخلفيّة تكبير الأحجام سببها خلَل رئيسي في النظام السياسي الذي سمح بتكريس عُرف تتفّرد فيه كل طائفة بتقديم مرشّحيها للمناصب الأساسية في الدولة. عِلماً بأن أيّ منصب من المناصب الأساسية من الرئاسة إلى رئاسة الوزراء إلى رئاسة المجلس النيابي، يُفتَرض أن يكون شأناً يخصّ كل اللبنانيين وليس طائفة بعينها. لكن نظام الطائف سمح بنشوء نظام فديرالية الطوائف.
والتأزّم السياسي الحاصِل الآن، لا تقف حدوده عند الصِراع بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية والذي أسقط تفاهم معراب عند أول اختبار حقيقي. فهناك مُعضلة في التمثيل لدى السنّة ناجمة عن بروز كتلة من 8 نواب تنافس كتلة زعيم تيار المستقبل سعد الحريري، الذي تراجعت كتلته إلى 16 نائباً سنّياً. لكن لا يبدو أن الحريري في وارِد التنازُل مثلاً عن مقعد لمُنافسيه من السنّة، لأنه في الحسابات السياسية الأوسع أن من بين هؤلاء أصدقاء لحزب الله، وتالياً فإن من شأن توزير أحدهم زيادة نفوذ الحزب داخل الحكومة. وهذا غير مسموح به خليجياً ولا أوروبياً ولا أميركياً.
وانطلاقاً من قاعدة التنافُس المحلي في المناطق الدرزية، يرفض وليد جنبلاط توزير طلال أرسلان ويتمسّك بتسمية الوزراء الدروز الثلاثة إذا كانت الحكومة المقبلة ستضمّ 30 وزيراً. فضلاً عن أن مُعادلة الأحجام والأوزان التي تمخّضت عنها الانتخابات اللبنانية الأخيرة والتي لم تكن نسبية خالصة أو نسبية بالمعنى المُتعارَف عليه في البلدان الأخرى، تجعل من الحزب الاشتراكي المُمثّل الأساسي وربما الوحيد لدروز لبنان على الصعيد البرلماني. وهذا لا علاقة له بين الاصطفافات التقليدية بين جنبلاطيين وأرسلانيين على الصعيد الشعبي والمناطقي. ويرفض جنبلاط كل الضغوط التي يُمارسها التيار الوطني الحر لتوزير أرسلان على قاعدة إنشاء كتلة برلمانية خاصة به من أربعة نواب، ويقترح على التيار أن يمثّل أرسلان في هذه الحال بوزير مسيحي، ما يعني أن ذلك سيكون على حساب الحصّة الوزارية للرئيس ميشال عون أو حصّة التيار الوطني الحر.
وهذه عقدة أخرى من نِتاج النظام السياسي الذي كرّس فديرالية الطوائف. وأصلاً بُنيَ القانون الانتخابي ليس على النسبية وإنما على الصوت التفضيلي، الذي وضِعَ في الأساس لتمكين كل طائفة من اختيار نوابها. وبذلك كان الصوت التفضيلي بمثابة القانون الأرثوذكسي الذي نادى به التيار الوطني الحر لتمكين المسيحيين من اختيار نوابهم، بعدما كان قانون الستين في ضوء التناقُص العدَدي للمسيحيين في لبنان، يجعل جزءاً كبيراً من نوابهم يأتي بأصوات المسلمين.
لكن هذه المشكلة سببها عدم تطوير النظام السياسي في لبنان والتأخّر في تحريره من قيود الطائفية السياسية، التي ستكون مدخلاً إلى الإصلاح الحقيقي، بينما تكبير الدوائر الانتخابية تارةً أو تصغيرها تارةً أخرى، أو اعتماد النسبية المُطعّمة بالصوت التفضيلي، كلها من قبيل المُعالجات الجزئية التي لا تُفضي إلى إصلاح حقيقي. وعندما تُجرى الانتخابات خارج القيد الطائفي ومع اعتماد النسبية في لبنان دائرة واحدة، تكون بداية الإصلاح والخروج من فديرالية الطوائف.
ومن مثالب النظام السياسي الحالي أن دستور الطائف لم يضع مُهلةً مُحدّدة لتأليف الحكومة، إذ في إمكان الرئيس المُكلّف أن يستغرق الوقت الذي يراه مناسباً. وعلى سبيل المثال استغرق تمام سلام 11 شهراً لتأليف حكومته عام 2013. لكن طول مدّة التأليف هذه المرّة يُنذِر بمُضاعفات سياسية واقتصادية على لبنان في ضوء التحذيرات الصادرة عن الزعماء السياسيين أنفسهم، من أن البلد مُقبل على انهيارٍ مالي.
ومن دون خطوات إصلاحية جذرية لبُنية النظام السياسي، ستبقى الأزمات الحكومية تتناسل وستبقى الاشتباكات الطائفية قائمة بسبب المُحاصَصة ومُطالبة كل طرفٍ بأكبر حصّة له ظنّاً منه أن هذا يُشكّل عامل اطمئنان لديه على المستقبل، بينما لا يعدو كونه في واقع الأمر سوى إرجاء لانفجار أزمات أكبر.