المُصالحات السورية تجربة فريدة لحل الصراعات
التجربة السورية في المُصالحات لم تطرح نفسها مثل التجارب السابقة حلاً سياسياً نهائياً للأزمة التي تضرب البلاد وإن كانت تطمح إلى ذلك، إذ ما زال هناك الكثير من العوامل والتعقيدات الداخلية والخارجية التي تمنع ولادة مثل هذا الحل في سوريا. بل يقوم جوهر التجربة السورية على تطويق الأزمة وحصرها تمهيداً لايجاد حلٍ سياسي لها يكون بعيداً عن تأثيرات الأجندات والمشاريع الخارجية.
من باكورة المُصالحات في مدينة تلكلخ عام 2013 إلى خواتيمها التي يشهد الجنوب السوري في هذه الأوقات فصولها المُتتابعة، رسّخت الحكومة السورية مساراً تصالحياً فريداً من نوعه لا يكاد يشبه أيّاً من تجارب الدول التي مرّت بأزماتٍ كبرى. وقد تكون فرادةُ أزمة الحرب السورية وعدم انتظامها في أيّ من نماذج الحروب المعروفة، من أهم الأسباب التي اضطرت الحكومة السورية إلى اجتراح حلول مُبتكَرة لا تسير وفق نمطٍ مجرّب سابقاً، رغم ما يحمله ذلك من سِمات المغامرة أحياناً والمُخاطرة أحياناً أخرى.
ويُسجَّل للحكومة السورية أمران إثنان: الأول أنها كانت أول جهة تُبادر إلى طرح رؤية تصالحية تهدف إلى إيجاد حل للأزمة السورية وذلك في وقتٍ مبكرٍ من عُمر هذه الأزمة. وقد تكون خطابات الرئيس السوري بشّار الأسد في ذلك الوقت هي الحامِل الأول لنواة تلك الرؤية الاستشرافية. والثاني أن الحكومة السورية استطاعت رغم جميع التحدّيات والعقبات أن تفرض رؤيتها التصالحيّة وتشقّ لها مساراً واسعاً كان له الفضل بعد ذلك في تقزيم الأزمة وحصرها في مناطق محدّدة بعد أن كانت سرطاناً يستشري في جميع خلايا الوطن. وأصبحت هذه الرؤية التي طالما وصِفَت في دوائر الغرب ووسائل إعلامه بأنها "انفصام عن الواقع" من أهم أعمدة بناء الواقع السوري الجديد.
بل بلغ الأمر بأهمية هذه الرؤية أنها فرضت نفسها وريثاً شرعياً للعديد من المبادرات الأخرى ، وبالأخصّ مبادرة "مناطق خفْض التصعيد" ، إذ أن العديد من هذه المناطق انتهى بها المطاف إلى توقيع النسخة السورية من نموذج المُصالحات، لتنضمّ إلى قافلة الحل السوري بعيداً عن مسارات التدخّل الاقليمي والدولي. وقد يكون له دلالة أن الأمم المتحدة برمزيّتها وشرعيتها شاركت في بعض اتفاقات المُصالحة والتسوية وأشرفت على تطبيقها، الأمر الذي أضفى المزيد من القوّة على التجربة السورية الرائِدة.
وفي نظرةٍ إلى الوراء، يمكن القول أن مسار المُصالحات السورية، الذي سار جنباً إلى جنب مع مسار العمليات العسكرية بل كان في كثيرٍ من الحالات بمثابة الظلّ الذي يتهادى وفق حركة هذه العمليات ، ويشكّل في الوقت نفسه بديلاً عنها، كان يشقّ طريقه وفق رؤية واضحة تستهدف تحقيق جملةٍ من الأهداف المُعقّدة والمُركّبة أهمها: أولاً- الفرز بين شريحة المواطنين من جهة وحاضِنة المسلّحين الاجتماعية من جهة ثانية. ثانياً- التمييز بين طبقات المسلّحين حسب درجات تطرّفهم أو "اعتدالهم" ومحاولة عزل الأكثر تشدّداً بينهم. ثالثاً- قَضْم مناطق سيطرة المسلّحين بأقل تكلفة مُمكنة ، والعمل على حَصْر مناطق سيطرتهم في جهاتٍ محدودةٍ يمكن التعامل معها لاحقاً بالحل العسكري أو السلمي. رابعاً- مواجهة مبادرات الحلول الخارجية التي كانت تسعى في مُجملها إلى محاولة رَسْم المستقبل السوري وفق خطوط تناسب أجندات الدول التي تقف وراءها ، والتي كانت تصبّ جميعها في خانة تهميش الدولة السورية وحِرمانها من دورها الاقليمي.
وقد يؤخَذ على هذا النهج السوري في تحقيق المُصالحات أنه لا يستند إلى بنية قانونية وسياسية قادرة على حمله، الأمر الذي يُهدّد بإمكانية فشله أو عدم بلوغه الأهداف المُتوخاة. ويشير هذا الرأي إلى أن الحكومة السورية لم تحاول تطويق هذا المسار التصالحي بإطارٍ واضحٍ من القوانين والقرارات والمباردات السياسية ، تكون قادرة على حمايته وضبطه ودفعه نحو تحقيق أهدافه. ولكن هذا الرأي يغفل عن ناحية جوهرية وهي أن المُصالحات السورية ليست نسخة طبق الأصل عن أية تجربة سابقة عرفتها الدول الحديثة ، سواء في جنوب أفريقيا أو أميركا اللاتينية أو المغرب العربي أو حتى النموذج الأوروبي المُتمثّل في تجربة يوغسلافيا، لذلك لا يمكن لانتقاده الاستناد فقط إلى غياب العناصر التي شكّلت روحيّة تلك التجارب.
فالتجربة السورية في المُصالحات لم تطرح نفسها مثل التجارب السابقة حلاً سياسياً نهائياً للأزمة التي تضرب البلاد وإن كانت تطمح إلى ذلك، إذ ما زال هناك الكثير من العوامل والتعقيدات الداخلية والخارجية التي تمنع ولادة مثل هذا الحل في سوريا. بل يقوم جوهر التجربة السورية على تطويق الأزمة وحصرها تمهيداً لايجاد حلٍ سياسي لها يكون بعيداً عن تأثيرات الأجندات والمشاريع الخارجية.
ورغم أن انخراط بلدات في الجنوب السوري مؤخّراً، ضمن مسار المُصالحات شكّل انعطافة هامة، إلا أن هناك العديد من المناطق السورية ما زالت خارج نطاق سيطرة الدولة السورية وتحتاج إلى ابتكار حلول لاستعادتها من براثن تشابك مصالح الجهات الاقليمية والدولية حولها ، وأهمها شمال شرق سوريا الخاضِع للنفوذ الأميركي ومناطق درع الفرات وغصن الزيتون الخاضعة للاحتلال التركي.
وعليه يمكن القول إن التجربة السورية ستسجّل كونها تجربة فريدة تُضاف إلى سجلِ التجارب الأممية والدولية في حل الصراعات والأزمات الداخلية، وقد تشكّل نموذجاً يُغري باقتدائه العديد من الدول في المنطقة والعالم التي ما زالت تعاني من ويلات وأهوال هذه الصراعات.