الطائرات الورقية وأزمة الحلول الإسرائيلية
تزايُد الحرائق في مستوطنات غلاف غزّة، الناشئة عن الطائرات الورقية الحارِقة، دفعت "إسرائيل" بالعمل على خطين متوازيين لمحاربة هذه الظاهرة الشعبية للمقاومة، حيث في المستوى الأول، حاولت أن تجد حلاً تكنلوجياً لمحاربة الطائرات الورقية الحارِقة والبالونات، لدرجة أن قيادة الجيش طالبت شركة رفائيل للتصنيع العسكري بصناعة منظومة تقنية لاعتراض هذه الطائرات الورقية.
وقد أعلنت شركة رفائيل للتصنيع العسكري أن هناك منظومة دفاعية من سلاح الليزر في طور الاختبار للتصدّي للبالونات والطائرات الورقية الحارِقة، ناهيك عن الطائرات من دون طيّار الصغيرة التي تمت تجربتها في إسقاط الطائرات الورقية والبالونات الحارِقة.
أما المستوى الثاني فلقد تم استدعاء وحدات الاحتياط في الدفاع المدني، والشرطة، وبعض وحدات الجيش الصهيوني، التي تعمل في الدفاع عن الجبهة الداخلية من أجل مكافحة الحرائق الناتجة من الطائرات الورقية الحارِقة، بما يشبه (أمر "8") الخاص باستدعاء الاحتياط في الجيش الصهيوني، ناهيك عن إصدار الجيش، وقيادة الجبهة الداخلية تعليمات تحذيرية وإرشادية لمستوطني غلاف غزّة في كيفية التعامل مع خطر الطائرات الورقية الحارِقة.
باتت دولة الاحتلال على ضوء هذه المحاولات الفاشلة حتى الآن في مُجابهة الطائرات الورقية والبالونات الحارِقة، أمام عدّة خيارات:
أولاً. القبول باستمرار حال فقدان الأمن لدى مستوطني الغلاف، وتآكل صورة الردع الصهيونية، ليس أمام المقاومة في غزّة وحسب، بل على مرأى ومسمع من الإقليم بكليته، وهنا لا تقاس الخسائر الإسرائيلية بالتكلفة المادية، التي مهما بلغت تبقى متواضعة أمام الخسائر النفسية، والوجدانية والإعلامية، وهذا خيار صعب أن تقبل به "إسرائيل".
ثانياً. التعامل مع الطائرات الورقية الحارِقة كسلاح، فتبدأ "إسرائيل" بقصف أو اغتيال مطلقي البالونات الحارِقة، ولكنها تدرك أن هذا بمثابة قرار بالدخول في مواجهة مفتوحة مع المقاومة في غزّة المتمسّكة بمعادلة القصف بالقصف، والدم بالدم، لكن الإسرائيلي غير جاهز لها على ضوء مشاكل جبهته الداخلية، من خلال النقص الحاد بالملاجئ الآمنة لمستوطنيه، والأهم توتر جبهة الشمال الأكثر تأثيراً على موازين القوّة لدولة الاحتلال في المستقبل, بالإضافة إلى رغبته باستكمال الجدار (تحت أرضي) لمحاربة الأنفاق، هذا المشروع الذي يبني عليه الجيش الإسرائيلي استراتيجيته في مجابهة الأنفاق الهجومية، السلاح الأكثر إرهاقاً لهم، ناهيك عن الحراك السياسي تحت الرعاية الأميركية في المنطقة، تجعل يد "نتنياهو" مغلولة في التصرّف الغاشِم ضد غزّة، خاصة مع الرأي العام الدولي المعارض للإجرام الصهيوني المُمنهج ضد المتظاهرين السلميين في مسيرات العودة وكسر الحصار، ما سيضع حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة في حرج شديد أمام شعوبهم، وخاصة أننا نتحدّث عن طائرات ورقية شعبية وبالونات بمواجهة طائرات إف 35.
ثالثاً. يحاول الجيش الصهيوني أمام هذه الخيارات إيجاد حل شامل لغزّة، بما فيها إنهاء مسيرات العودة، التي تعتبر الطائرات الورقية إحدى تجليات فعلها الشعبي، الذي أربك كل حسابات دولة الاحتلال، خاصة إذا أتى الحل في سياقات التخطيط الأميركي للمنطقة، وللقضية الفلسطينية، التي تُعرَف بصفقة القرن، خاصية هذا الحل أنه سيحاول معالجة كل الإشكاليات الصهيونية في غزّة رزمة واحدة، بما فيها قضية الجنود الأسرى لدى المقاومة، تحت عنوان التخفيف من الأزمة الإنسانية في غزّة.
المستوى السياسي في دولة الاحتلال مازالت حساباته الحزبية، ورهاناته الانتخابية تقف حجر عثرة أمام التقدّم في هذا الحل الشامل الذي يتبناه المستوى العسكري المهني في المؤسسة الأمنية في دولة الاحتلال، بالإضافة إلى مخاوفه من أن ينظر فلسطينياً إلى أي تخفيف على غزّة في المستوى الحياتي كإنجاز حقّقته مسيرات العودة وكسر الحصار، ما يزيد من زخمها، ويساعدها على مراكمة نجاحاتها خاصة على صعيد الوصول إلى هدفها المرحلي كسر الحصار عن مليوني فلسطيني في قطاع غزّة، وحتى على صعيد أهداف مسيرة العودة الاستراتيجية، يتجلّى الهاجس الإسرائيلي الأساسي بأن يشعر الفلسطيني اللاجئ في غزّة وغيرها من المدن الفلسطينية سواء في الضفة أو في بلدان اللجوء، بنجاعة مسيرات العودة النضالية في ظل طوفان صفقة القرن، حينها لن تقتصر إشكالية "إسرائيل" على كيفية مجابهة استمرارية مسيرات العودة على الحدود الشرقية لغزّة فقط، بل ستتعدّاها إلى مواجهتها في مناطق أكثر حساسية على أمن دولة الاحتلال ستنتقل إليها تلك المسيرات.
رابعاً. حاولت دولة الاحتلال أن تخلق حلاً توافقياً ما بين رؤية الجيش، وما بين رؤية المستوى السياسي، من خلال الرد العسكري المحدود على الطائرات الورقية، بمعنى الاقتصار على الاستهداف غير المباشر لمُطلقيها، وازدياد حدّة هذا الاستهداف طردياً مع اتّساع ظاهرة الطائرات الورقية الحارِقة، وتطوّر المشهد الأمني, كل ذلك بالتوازي مع مبادرات ومقترحات إسرائيلية سياسية للتخفيف من أزمات غزّة الإنسانية، تطرح فقط على الإعلام من أجل خلق حراك وهمي، يُجمّل من الصورة الدعائية للحكومة اليمينية الإسرائيلية، ويُحاول أمام الداخل الصهيوني والمجتمع الدولي أن العائق الأساس بوجه إنهاء أزمات غزّة هو المقاومة الفلسطينية وليس دولة الاحتلال، وبذلك تلقي الكرة في ملعب المقاومة وتحاول تحويل الضغط الشعبي الفلسطيني وحتى الدولي بتجاهها.
من الواضح أن دولة الاحتلال تفضّل الحل التوافقي، لأنه يمنحها الوقت ولا يجبرها على اتخاذ قرار نهائي بشأن غزّة، وفي الوقت ذاته يمنحها المرونة في التعاطي مع التغيّرات المتلاحقة سواء على المستوى السياسي أو على المستوى الأمني.