نحو اعتراف أميركي بالتعدّدية القطبية في هلسنكي

لو قُدِّر لكوميدي مُداعِب أن يُقارن بين صورة جون بولتون الإعلامية بوصفه أحد أبرز "الكواسر" في الولايات المتحدة الأميركية وبين أفعاله، لما تردّد في القول إنه صقر من ورق. لقد وعد بإسقاط النظام في كوريا الشمالية، فقرّر ترامب التصالُح معه ضمن شراكة استراتيجية. ووعد بأن يتذوّق فلاديمير بوتين "الأمرّين" فإذا به يظهر فجأة في بلاد الروس مفاوِضاً قيصرهم على شراكة استراتيجية أيضاً، تنطوي على الاعتراف بروسيا كطرفٍ أساسي في إدارة شؤون العالم.

إن السمة الجامِعة في هذه الملفات تتمثّل في محدودية النفوذ الأميركي في رسم مستقبلها

بولتون "المُشورَب" يشبه الشخصيات الشريرة التي تُرهِب الأطفال في مسلسلات الصوَر المتحرّكة. قد يُرِهب حكّاماً في الخليج تتولّى بلاده حمايتهم. وقد يتمادى في الكذب والتحريض على نظام الرئيس العراقي السابق صدّام حسين الذي حطّمته الحرب وأضعفه الحِصار، لكنه لا يُرهِب كيم جون أون الذي هدّد بتدمير الولايات المتحدة الأميركية. ولا يُرِهب فلاديمير بوتين المُتّهم بالتدخّل في الشؤون الانتخابية الأميركية ناهيك، عن أن بولتون لم يتمكّن في إدارة بوش من تثبيت فريق " 14 آذار " اللبناني في الحُكم ، أو إنقاذ إسرائيل من هزيمة تموز ــــــــ يوليو عام 2006 في لبنان، ولا من كبح جماح المقاومة العراقية فضلاً عن فشله في منح الكرد العراقيين استقلالهم. ولعلّه مرشّح للفشل أيضاً في الملف النووي الإيراني بوصفه من أبرز الداعين إلى توجيه ضربه عسكرية للجمهورية الإسلامية والانسحاب من الاتفاق الدولي معها.
مستشار الأمن القومي الأميركي يُستخدَم كفزّاعة في علاقات بلاده الخارجية، لكنها فزّاعة محدودة التأثير في التعبير عن الغطرسة والسياسة المتوحّشة. فهل يفقد سطوته المعنوية وهل تتحطّم صورته في القمة الروسية الأميركية المقبلة التي ستلتئم في هلسنكي أواسط تموز ــــــ يوليو المقبل؟
الجواب عن السؤال لا يمكن تجميع عناصره من مواقف بولتون وإنما من التطوّرات الروسية على غير صعيد ومن انحسار القوّة الأميركية المتزايد والتقوقع المُتسارِع الذي يميّز سياسة الرئيس ترامب. وأكاد أجزم أن القمة الأميركية الكورية الشمالية والقمة المقبلة مع فلاديمير بوتين هي في أحد وجوهها تعبير عن القناعة التي توصّلت إليها الإدارة الأميركية من أنها لا يمكن ولم تعد لديها القدرة على أن تلعب دور شرطي العالم المنفرد، وأن انحسار سلطتها يمر باتفاقات تعترف بواسطتها بالقوى الدولية والاقليمية المنبثقة حديثاً وتتشارك معها في إدارة الملفات المُتنازَع عليها.
تنطوي الملفات التي عرضها بولتون للقمة في موسكو، على أفضليات روسية لا جدال في أهميتها، شأن الملف الأوكراني أو الملف السوري أو التسلّح الاستراتيجي. في أوكرانيا لا استقرار ولا نهاية للحرب إلا بشروط روسية. وفي سوريا اعترفت الولايات المتحدة بفشلها وما عادت تتكلّم عن إسقاط الرئيس بشّار الأسد وهنا أيضاً تلعب روسيا دوراً محورياً، هذا إذا أردنا تحييد ملفات الطاقة والجيل الجديد من الصواريخ البالستية العابرة للقارات.. الخ والمُلفت في هذا الصدد أن بولتون لم يتحدّث في موسكو عن ضمّ جزيرة القرم وبدت قضية حقوق الإنسان وكأنها الهمّ الأخير في أجندته التفاوضية.
إذا اعتمدنا خلاصة الاتفاق الأميركي الكوري الشمالي كوسيلة للقياس، فإن القمة الروسية الأميركية مرشّحة للسير في الاتجاه نفسه ولكن بحجم دولي، أي الاعتراف بالقطب الروسي كقوّة عالمية جديرة بلعب أدوار تتناسب مع مصالحها وموقعها وبالتالي احترام هذه القطب وعدم التدخّل في شؤونه والتزام الحَذَر في التعليق على قضاياه الداخلية.
الواضح أن هذه الخلاصة لا ترقى إلى ما يتطلّع إليه الكرملين من وجوب تقاسُم النفوذ الدولي بين الطرفين لكنها تظل دليلاً لا يُخطىء على اعتراف واشنطن بالتطوّر الروسي المهم في مجال التسلّح الاستراتيجي ولا سيما الصواريخ العابِرة للقارات التي تحمل رؤوساً نووية يصعب اكتشافها بالتكنولوجيا المعروفة.
يبقى البحث في مصير الازمات التي تهمّ البلدين وبخاصة أوكرانيا وسوريا وإيران. إن السمة الجامِعة في هذه الملفات تتمثّل في محدودية النفوذ الأميركي في رسم مستقبلها والتأثير الروسي الغالب في مصيرها. لاحظنا للتوّ أن الملف الأوكراني هو الأكثر تعقيداً إذ يقع على الحدود الروسية المباشرة، وقد لعبت واشنطن ودول أوروبية أساسية أدواراً حاسِمة في التنكّر لاتفاق الضمان الدولي لشروط الحُكم في هذا البلد ثم تجاوز اتفاقية مينسك فكان الرد الروسي بضمّ القرم ودعم الانفصاليين وبالتالي الحؤول دون تحوّل هذا البلد إلى دولة أطلسية تهدّد الأمن الروسي. وفي الملف السوري نجحت روسيا في حماية الدولة السورية ومكافحة الإرهاب ورعاية الحوار بين السلطة والمعارضة. وفي الملف الإيراني تعلن روسيا تمسّكها باتفاق 5+1 مُنسجِمة مع القوى الدولية الداعمة للاتفاق فيما تبدو واشنطن معزولة .
هذا التفاوت في التأثير في ملفات التفاوض سيكون حاضراً على طاولة القمة الثنائية وعُرضة للمساومة. ومن الطبيعي أن تكون العقوبات الأميركية على روسيا بنداً أساسياً في المساومة التي ستفضي بالضرورة إلى رسم حدود القوة والنفوذ بين البلدين والاتفاق على شروط لاحترامها وحمايتها تماماً كما كانت عليه الحال خلال الحرب الباردة.
ثمة من يرى أن الحديث عن قمة تاريخية بين البلدين سابق لأوانه وذلك لسببين رئيسيين: الأول هو أن المعني بالقمة ـــــــ دونالد ترامب الذي لا يمكن الوثوق به ـــــــ قادر على تغيير مواقفه كما يُغيّر ثيابه، والسبب الثاني إن تفاهماً روسياً أميركياً حصل عام 2008 في عهد الرئيس جورج بوش الإبن ولم يصمد أكثر من 8 أشهر وانتهى بسبب الحرب التي شنّتها روسيا ضد جورجيا،عِلما أن الرئيس الجيورجي سكاشفيللي استدرج تلك الحرب عبر هجومه على أوسيتيا الجنوبية، الاقليم المستقل عن جيورجيا والذي يتمتّع بحماية روسية.
لا يشبه هذا السيناريو ظروف القمة المُرتقبة. فقد تغيّرت الملفات وعناصر التأثير فيها وحطّم التسلّح الروسي الاستراتجي بعض قواعد اللعبة العسكرية ، وبالتالي حمل "صقر" الإدارة الأميركية إلى موسكو للتفاوض على الانتقال من نظام الشرطي الأوحد في العالم إلى التعدّدية القطبية. لقد تغيّر العالم إلى حدٍ كبيرٍ بعد الحرب الباردة والبادي أن الوقت قد حان للاعتراف بهذا التغيير في هلسنكي ومن قبل في سنغافورة وربما في عواصم أخرى مقبلة.