أزمة "العمّة" ميركل

"العمّة ميركل"، هو عنوان فيديو أهزوجة صوَّره بعض الجَهَلة، عام 2013 وهم يرقصون تحيّة للعمّة ميركل التي فتحت أبوابها للاجئين. صورة حيّة تعكس الوجه الآخر القاتِم من المسألة. الغوغاء الغبية التي تُهلّل لمَن يقبل المهاجرين، ولا تسأل مَن كان وراء تهجيرهم؟ ما هي السياسات المجرمة التي تآمرت وما تزال على تفكيك أوطانهم وتدمير ثرواتهم ونهبها لتحوّلهم من أصحاب حقوق إلى متسوّلي معونات إنسانية؟

أدركت ميركل خطورة باب جهنم الذي فتحته ولذلك جاءت تجول على الأردن ولبنان بعد تركيا لإغرائهم بالحفاظ على اللاجئين لديهم

أوروبا المنشغلة بأزمة اللاجئين أكثر منها في أي وقت مضى، هي أوروبا نفسها المنشغلة بهمّ الجنوب السوري. ليس لأن معركة الجنوب قد تحمل مزيداً من اللاجئين، بل لأن عودة الدولة السورية إلى الجنوب ستزعج إسرائيل، وتكرّس فشل مشروع إسقاط الدولة السورية، كما قد تساهم في إسقاط صفقة القرن.

بمقارنة بسيطة نجد أن الخطاب الإعلامي والسياسي لا يتعب نفسه في اختيار فورمات جديدة وخطاب جديد، لكأن اطمئنانه إلى غياب العقل النقدي والذاكرة السياسية لدى العرب قد انسحب أيضاً على الرأي العام الأوروبي الذي يتراجع يوماً بعد يوم عن هذا المستوى من الوعي، وذلك ما يشهد به قلق أهم علماء الاجتماع لديه والمجلدات التي باتوا يصدرونها حول هذا الموضوع. وإذا كانت هذه الأبحاث تعزو هذا التراجع إلى سيادة اقتصاد السوق والعولمة الأميركية التي تحوّل المواطن إلى مجرّد مُستهلك. وإلى دور اللوبيهات التي باتت تقرّر اتجاهات الرأي العام وأحياناً كثيرة بدلاً منه، فإن العنصر الذي لا يذكرونه، هو هذا الحسّ الاستعماري المُتأصّل في السيكولوجية الغربية، بحيث يجعلها تؤمن تلقائياً بحقها في استغلال ثروات الآخرين وتقرير مصائرهم الوطنية.

حسّ هو في صُلب قِصْر النظر الأوروبي، الذي جعل أنجيلا ميركل تتحمّس للاجئين لأنها، وهي الليبرالية، اعتقدت بأنها ستكسب أيد عاملة رخيصة تنعش الصناعة الألمانية وتؤمن سيادتها في عالم السوق.

كما أن الحنين الاستعماري، مُضافاً إلى الارتهان للوبيهات، هو ما جعل فرانسوا هولاند يتحمّس للاجئين كوسيلةِ ضغطٍ على سوريا، في حين يُصرِّح رئيس وزرائه إيمانويل فالس: ليس بإمكاني أن أمنع شاباً من الذهاب إلى سوريا لمقاتلة الديكتاتورية، كما يُصرّح وزير خارجيته الصهيوني رولان فابيوس، بأن النصرة تقوم بعملٍ جيدٍ في سوريا. 

هؤلاء "الشباب" عادوا إلى مسرح كاتالان بحضور فرانسوا هولاند نفسه. وأوروبا الأخرى، أوروبا الدول الصغيرة التي تعجز عن تحمّل موجات اللجوء الضخمة ذهبت إلى الاقتراع لمرشّحي المُحافظين الذين يعارضون الهجرة. لتصل بروكسل اليوم الأحد الماضي إلى عقد لجنة مصغّرة لمناقشة الموضوع. فيما إيطاليا والنمسا وهنغاريا وبافاريا والدانمرك ودول أوروبا الشرقية الصغيرة، ترفض مُسبقاً المشروع الذي أعدّته المفوضية الأوروبية.

هذا الرفض كان مآلاً طبيعياً لهذا التدفّق، ولمواجهة الأزمة التي خلقتها هذه السياسات. ومن الطبيعي أيضاً أن يذهب إلى أبعاد عنصرية من مثل اقتراح  تجميع اللاجئين في مخيمات مقفلة وإخضاعهم لاختبارات، يتم بعدها انتقاء مَن يصلُح منهم للجوء. كما تذهب سيّدات المجتمعات الاستهلاكية إلى مكاتب استخدام الآسيويات وتحدّد المعايير التي ستختار بناء عليها.

بعضهم يتّهم البعض الآخر، لدرجة استدعاء وزارة الخارجية الإيطالية السفير الفرنسي في روما ومن ثم سحب باريس لهذا السفير. فرنسا تتّهم إيطاليا بـ"انعدام المسؤولية" والثانية تتّهم فرنسا بـ"الخبث والنفاق وتحويل النظر". كذلك يتّهم الفرنسيون رئيس الوزراء النمساوي سيباستيان كوتز، بأنه بنى صعوده السياسي منذ تشريعيات عام 2017 على خطاب الحزم في معارضة الهجرة، والنمسا لا تأبه لفرنسا بل تردّ باتّهام أنجيلا ميركل بقِصْر النظر وتعد بأن تكون رئاسة فيينا المقبلة للمجموعة الأوروبية اعتباراً من أول تموز، فرصة لتثبيت هذا الخطاب. خاصة وأن هذا الرئيس الشاب قد خبر إمكانية إدماج المهاجرين في بلاده، عندما حُمّل هذا الملف وهو منتصف العشرين من عمره.

ميركل أدركت خطورة باب جهنم الذي فتحته ولذلك جاءت تجول على الأردن ولبنان بعد تركيا لإغرائهم بالحفاظ على اللاجئين لديهم.

إغراء لا يتعلّق فقط بمواجهة الأزمة الأوروبية قبل انعقاد مؤتمري بروكسل، المصغّر والموسّع، وإنما يرتبط أيضاً بإمكانية فتح باب عودة اللاجئين، بعد استقرار الوضع الأمني، ما يخفّف منسوب الضغط على الحكومة السورية، سواء في الوضع الحالي، أو في ما هو متوقّع من تجيير أصوات اللاجئين وفق إرادة الدول المُضيفة والمموّلة في الانتخابات الحتميّة التي ستلي الحل السياسي في سوريا، بعد الحسم العسكري.

من هنا نجد أن صفحة واحدة من صحيفة أوروبية وخاصة فرنسية، تعكس هذه المعادلة كلها، ففي حين تورد عدّة عناوين عن الأزمة الأوروبية حول اللاجئين منها ما يتعلق بكل حال على حدة ومنها ما يُشيطن الموقف الإيطالي (بالدرجة الأولى ومن ثم الدول الأخرى الأصغر). نجد أن العنوان الرئيس يكرّر معزوفة ألفناها منذ عام 2011 "جيش الأسد يحضّر الهجوم في جنوب سوريا" وتحته "قوات دمشق تنتشر على أبواب درع" في إصرار مقيت على دلالتين خطيرتين متكرّرتين "جيش الأسد" وقاعدة الشخصنة، و"جيش دمشق وأبواب درعا" لكأن دمشق ودرعا عاصمتان مختلفتان جاءت إحداهما لاحتلال الأخرى. وكالعادة تأتي الصورة لتدعم الخطاب المقول "إمراة تحمل أغطيتها وتهرب في صحراء خالية وأمامها طفل". الملفت هو قول الصحيفة  أن "درعا هي وإدلب آخر جيوب التمرّد" ، هكذا تتحوّل إدلب بإرهابييها إلى جيبٍ للتمرّد مهدّد من سلطة دمشق. لكننا لا نستغرب ذلك عندما نقرأ التوقيع فإذا هو الصحافي نفسه الذي وقّع التقرير المصوّر الشهير "العشّاق في حلب" الذي نشِرَ يوم خروج المسلحين من شرقي حلب وقدّمهم كعشاقٍ رومانسيين مُغرمين بفيروز ونزار قباني.  

تستكمل الصفحة ببقية الأسطوانة المشروخة: قصة إنسانية لعائلةٍ سوريّةٍ لجأت إلى كورسيكا. لكن الملفت هنا هو القول إن هذه العائلة لجأت منذ سنتين وتعيش بأمانٍ عِلماً بأن الحزب الحاكِم في كورسيكا هو من اليمين. وفي ذلك إشارة واضحة إلى معارضي الهجرة في بروكسل.

بكل هذا تكون الأزمة باختصار: كيف يمكن التخلّص من عبء اللاجئين من دون التخلّي عن هدف محاربة دمشق وشيطنتها، حتى في ما بعد العمليات العسكرية؟ أي أن المعركة السياسية ستشتّد أكثر بعد الفشل العسكري وقد يكون اللاجئون أقوى أوراقها، (إنسانياً وانتخابياً وربما أداة لتفجيرٍ آخر). بذلك سيزداد الضغط على لبنان والأردن لحَمْل العبء الذي لن يتمكّن الأوروبيون من تحمّله، وذلك ما حملته زيارة العمّة ميركل.    

"العمّة ميركل"، هو عنوان فيديو أهزوجة صوَّره بعض الجَهَلة، عام 2013 وهم يرقصون تحيّة للعمّة ميركل التي فتحت أبوابها للاجئين. صورة حيّة تعكس الوجه الآخر القاتِم من المسألة. الغوغاء الغبية التي تُهلّل لمَن يقبل المهاجرين، ولا تسأل مَن كان وراء تهجيرهم؟ ما هي السياسات المجرمة التي تآمرت وما تزال على تفكيك أوطانهم وتدمير ثرواتهم ونهبها لتحوّلهم من أصحاب حقوق إلى متسوّلي معونات إنسانية؟

قد يقول قائل: أوليست الأنظمة القائمة هي مَن جعلت الناس هكذا؟ ربما ولكن ثمة أمران لا مجال لتجاهلهما: الأول إن هذا الغرب نفسه لم يحارب يوماً من هذه الأنظمة إلا مَن قاوم مشاريعه السياسية – الاقتصادية - الثقافية، مقاومة تجلّت برفض الشروط الغربية من جهةٍ وببناء قوّةٍ ذاتيةٍ من جهةٍ أخرى. والثاني إن أداة التركيع في الأولى والتدمير في الثانية قد نُفّذت بأيدي مواطني هذه الدول وبمال العرب الأكثر ظلامية وقمعية وخضوعاً.

هكذا سترتبط كل هذه الصراعات بأخطر القادم المُسمّى صفقة القرن، وهي لم تعد في الواقع قادماً وإنما هي قيد التنفيذ.       

سيباستيان كوتز: المستشار النمساوي مدين بنجاحه منذ التشريعية عام 2017 للخطاب الصارِم – رئاسة المجموعة الأوروبية لمدة ستة أشهر – إنشاء معسكرات لجوء لاختيار المهاجرين الذين يتم قبولهم من 88 ألفاً إلى 24 ألفاً.