هل أدرك ترامب أنه خسر -وجها لوجه- مع كيم جونغ أون ؟
لغة الجسد كانت أكثر بلاغة في اللقاء الدونالدي الكيمي، فرغم خضوع الأول لتدريب مكثف وسري مع سفير المملكة المتحدة (بريطانيا) ولمدة أيّام تحسباً لهذا اللقاء التاريخي، إلا أن الطبيعة تغلب التطبع!
لقد بدا كيم متصالحاً مع نفسه ومتناغماً مع الأحداث على خلاف ترامب.
غادر الرئيس الأميركي، خالي الوفاض وصفر اليدين من القمة التي انتظرها العالم وجمعته بالزعيم الكوري الشمالي، ولكن يبدو أن ترامب لم يستوعب ذلك بعد.
أثبتت القمة الكبيرة أنها رؤية جوفاء أكثر من المتوقع
وكما كان ينبغي، فقد بدت كمشهد في فيلم أميركي أكثر من كونها قمة مصيرية ينتظرها العالم ويترتب على نتائجها الكثير في علاقات البلدين، بل والعالم كله.
الرئيس ترامب والزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون يقتربان من بعضهما البعض لمصافحة طويلة تكسو وجهيهما ابتسامات مصطنعة.
ترامب تكهن -قبل القمة- بأنه سيعلم من اللحظة الأولى ما إذا كانت هذه الحملة ستكون ناجحة أم فاشلة حيث قال "أنا ذاهب إلى هناك واثقاً من شعوري -ومن حدسي- وهذه هي طريقة عملي"!.
لا خطة عمل ولا خارطة طريق !
بعد دقيقة واحدة، وقبل أن يتاح له الوقت للتداول أكثر أو تبادل الأحاديث (غير المثيرة للاهتمام)، أخبر ترامب المراسلين أنه "يتشرف" برفقة كيم وتوقع أن اجتماعهم سيكون "نجاحا استثنائيا منقطع النظير".
استمرت القمة أقل من 12 ساعة، أدلى بعدها الجانبان ببيان مشترك، أقل ما يقال عنه أنه فضفاض وهزيل وخالٍ حتى من أبسط المعايير العملية الملموسة!.
صحيح أن كوريا الشمالية قد تعهدت "بالعمل من أجل نزع السلاح النووي الكامل لشبه الجزيرة الكورية". ولكن من رأينا أن هذا لا يعني أي شيء قبل توفر قائمة وجرد مفصل لما تملكه وتحوزه كوريا الشمالية من هذه الأسلحة... بالإضافة إلى جدول زمني لإيقاف تشغيلها بل وتفكيكها.
لا يقترح البيان المشترك جدولاً، جرداً، أو حتى اقتراحاً بجدول جرد من طرف بيونغ يانغ.
أعلن وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو قبل الاجتماع أن ترامب سيصر على "التفكيك الكامل، القابل للتحقق ولا رجعة فيه" للمجمعات النووية في كوريا الشمالية، في حين لا يتضمن الإعلان المشترك حتى تلميحاً إلى الطريقة التي سيتم بها التحقق من نزع السلاح.
كما أن التعبير الحاسم ولكن الغامض عن "إخلاء شبه الجزيرة الكورية من الأسلحة النووية" ظل كذلك عالقاً إلى أجل غير مسمى رغم اشتغال ممثلين ووسطاء من كلا البلدين لأيام عديدة على محاولة الوصول إلى اتفاق حول هذه القضية وغيرها من القضايا الأساسية.
فشل كل الوسطاء، تماماً كما فشل الزعيمان عندما التقيا وجهاً لوجه، وأيضاً فشلت مباحثات مجموعة كبيرة من المسؤولين الساميين -كمايك بومبيو، ومستشار الأمن القومي (جون بولتون)، ورئيس هيئة الأركان في البيت الأبيض (جون كيلي)، مع نظرائهم الكوريين الشماليين - عندما اجتمعوا حول نفس الطاولة.
قمة سنغافورة أثارت سيناريوهين محتملين كلاهما مزعج
أولاً: غياب أي معلومة محددة وملموسة حول تفكيك الترسانة النووية لكوريا الشمالية.
ثانياً: رغم تقديم ضمانات أمنية كبيرة لنظام كيم، إلا أن ترامب لا يقدم بالمقابل الكثير من التنازلات عن التزامات الولايات المتحدة الأميركية تجاه حلفائها في كوريا الجنوبية واليابان.
حتى وإن وافق ترامب على توقيع "معاهدة سلام" من شأنها إنهاء الحرب الكورية - رغم أن وقف إطلاق النار ساري المفعول منذ عام 1953 - إلا أنه ومن الناحية الفنية، لا تزال الدولتان في حالة حرب.
السؤال المطروح: هل أن معاهدةً من هذا النوع سيتبعها قريباً انسحاب القوات الأميركية من كوريا الجنوبية؟
خلال المؤتمر الصحافي الذي تلى القمة، أكد ترامب أنه "سيعلق التدريبات العسكرية مع كوريا الجنوبية"، مضيفا "إن المناورات الحربية كانت باهظة"، كما أنه يتفق مع كيم بأنها كانت "استفزازية"، مما يعد تنازلاً كبيراً، خاصة أن ترامب يبدو أنه قرر ذلك وكالعادة بطريقةأحادية ودون التشاور أولاً مع الرئيس الكوري الجنوبي مون جاي-إن.
غنائم كورية شمالية ضخمة مقابل تنازلات بخسه من طرفها
التنازلات الوحيدة التي قدمها كيم في القمة كانت:
1-الالتزام بإعادة رفات أسرى الحرب والجنود المفقودين إلى أميركا، وهي قضية عاطفية وذات قيمة معنوية لعائلات قدامى المحاربين.
2-إغلاق موقع تجارب لمحركات الصواريخ. وأوضح ترامب أن كيم قد وافق على هذا الطلب في اللحظة الأخيرة، كالتفاتة كريمة منه.
حتى وإن تميزت قمة سنغافورة بهزالة نتائجها عامة إلا أن الرئيس الكوري رجع من سنغافورة بغنائم معنوية ومادية أهمها:
1-إضفاء الشرعية على نظامه، الذي يعتبر الآن قوة عالمية جديرة بأن يتم التعامل معها على قدم المساواة من قبل زعيم العالم، والذي أثار أيضاً إمكانية لقاء مستقبلي في البيت الأبيض.
2-تعليق التدريبات العسكرية عند حدود كوريا الشمالية، هو دليل ملموس على ضعف التحالف العسكري القائم بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية والتي طالما حلمت بيونغ يانغ بمقاطعتها.
3-تخفيف الضغوطات القوية المقاسة بقوة وتيرة نزع سلاحها ووسائل التحقق منها.
نتائج متواضعة، لكنها إيجابية
إذا نظرنا للقاء بنظرة زومية، سنرى الوضع بطريقة إيجابية خاصة إذا تذكرنا العناوين التي شهدناها قبل بضعة أشهر، والتراشق الإعلامي العنيف والقاسي بين ترامب وكيم للتهديدات والتصريحات العدائية.
صحيح أن هذه العملية ستستغرق سنوات، وقد لا تؤدي إلى نتائج كبيرة، إلا أن القمة -رغم تواضع نتائجها- كانت إيجابية. وربما أقصى ما يمكن أن يأمل المرء تحقيقه هو إعلان النوايا النبيلة على المدى البعيد، ولو كان مصحوباً بعدد قليل من الإجراءات الملموسة، إلا أنه سمح بإنشاء منتدى يمكن للدبلوماسيين فيه العمل على تفاصيل أكثر دقة.
كما أن كيم ورغم غرابة أطواره وصغر سنه يظل وحشاً شمولياً لا يمكن الوثوق به، في حين أن ترامب ظهر كساذج فعلي، ينبهر بالليموزين والسجاد الأحمر أكثر من أن تنال اهتمامه حلول ناجعة تغلق صفحة هذا الجدل المزمن، ولايزال أسلوب ترامب تعوزه كثير من التصرفات الحصيفة والأكثر دبلوماسية ومسؤولية بما يليق بعمره ومكانته ومنصبه كرئيس للدولة الأقوى والأكبر في العالم