رجال الدين المطبّعين مع الاحتلال ليسوا من رجال الدين

لا تنفك دولة الكيان الصهيوني في السعي لإثارة الفتن بين الدول العربية، وداخل كل دولة على حدة، فهي المستفيد الأول والرابح الأخير مما يحدث في المنطقة العربية، وبين هذا وذاك تسعى للتطبيع السياسي بينها وبين الدول العربية، خاصة ما تُسمى بدول الطوق، وهو أمر مفهوم، فقد عقد الكيان الصهيوني اتفاقيات سلام مع مصر والأردن والسلطة الفلسطينية، ولكن هذه الاتفاقيات لم تمنع دولة العدوان ومعها الدولة الأميركية من السيطرة على الأشقاء في فلسطين والتفريق بينهم، واتهام قوى المقاومة بالإرهاب، وكلها أمور مفهومة ومعلومة.

لا تنفك دولة الكيان الصهيوني في السعي لإثارة الفتن بين الدول العربية

تأتي مسيرات العودة للفلسطينيين لتعطي المعنى الرمزي والحقيقي بأن روح المقاومة، والمقاومة نفسها هي الطريق الوحيد للانتصار على الاستعمار الصهيوني والاستكبار العالمي، وهي التي يجب دعمها، فكريا ودينيا وسياسيا، قبل أن يكون دعما عسكريا.
ولكن الكيان الصهيوني يسعى لتحقيق انتصارات دينية، أو ما يمكن اعتباره "تطبيع ديني مع الكيان الصهيوني"، وهو أخطر ما تقوم به (إسرائيل)، ذلك أن كل علماء وشيوخ الأمة – ما عدا الشذاذ منهم - على اختلاف مذاهبهم ترفض زيارة أحد المواطنين للقدس المحتلة، حتى لو للصلاة في المسجد الأقصى المبارك، فضلا عن عدم زيارة شيخ أو رمز ديني، لأن زيارة رجل دين مسلم للكيان الصهيوني يُعتبر انتصاراً للدبلوماسية الصهيونية، بحيث تبدو للعالم أنها ترعى الأماكن المقدسة الإسلامية، رغم عملية التهويد التي يقوم بها جيش الاحتلال للمسجد الأقصى ولكل مدينة القدس.
ورغم ذلك تأتينا بعض الأخبار عن زيارات يقوم بها رجال دين مسلمون للدولة الصهيونية، خلال تنظيم مسيرات العودة واستشهاد المئات وجرح الآلاف من الفلسطينيين المتظاهرين سلميا، يقوم بها رجال من المفترض أنهم يمثلون المسلمين، ولكنهم تخطوا الضمير المسلم وزاروا الكيان في أوقات الجهاد، من المغرب والبحرين وتونس، وهو ما يمكن تبريره إلا بأنه محاولة لتبرير التطبيع السياسي مع دولة الاحتلال، أو دعوة سياسية لرجال الدين بتبرير صفقة القرن من الناحية الدينية، صحيح أن أمثال هؤلاء المطبعين الدينيين لا يؤثرون دينيا ولا فكريا ولا عقائديا بين أبناء كل الأمة الإسلامية، ولكن الكيان الصهيوني يستغلهم في الترويج لنفسه بأنه واحة الحرية والديمقراطية وسط دول الاستبداد، ربما بعضهم يذهب بحسن نية، على أساس أنه يصلي في المسجد الأقصى ويلتقي بالفلسطينيين ويدعمهم معنويا، ولكنها جميعا أسباب يمكن إثبات بطلانها، فالضمير الشعبي الإسلامي يرفض التطبيع السياسي من الأصل، ومن ثم يرفض أي تطبيع له شبه دينية.
وعلى سبيل المثال زار الكيان الصهيوني عام 2012 رجلان من رجال الدين، المفترض أنهما من الرموز الدينية، وهما الشيخ اليمني المقيم في مصر "الحبيب الجفري"، ومفتي الديار المصرية الدكتور"علي جمعة" قاما بزيارة القدس الشريف، واعتبرا عملهما من أعمال البطولة، ونوعاً من أنواع التكريم المعنوي للشعب الفلسطيني، ولكن الشعوب العربية والإسلامية رفضت الزيارتان، خاصة زيارة المفتي، بل وصل الأمر بالإعلام أن وصفها بزيارة "العار" ولكنه قال "كانت زيارة دينية تعبدية بحتة"، وبفرض صحة الحديث، فإن المنتصر هو المحتل الصهيوني، فلا يمكن أن تكون زيارة رجل الدين مجرد تعبد، فهي في النهاية تخدم سياسة الاستعمار، وكاد الشيخ السعودي محمد العريفي أن يخطو نفس الخطوة وزيارة المدينة المحتلة عام 2010، عندما ذهب لدولة الأردن وقرر دخول فلسطين المحتلة، وتراجع في اللحظات الأخيرة، قد تكون صحوة ضمير، ولكنه ظل يتمناها في خطبة اللاحقة، أما الشيخ الأردني أحمد العدوان فقد سبق الجميع، وتعاون وخدم دينيا الفكر الديني الصهيوني، وذلك عندما قال في صفحاته عبر الإنترنت عام 2014 "إنه لا يوجد شئ في القرآن الكريم شيء اسمه “فلسطين”: وأن الله تعالى كتب الأرض المقدسة لبني إسرائيل إلى يوم القيامة، ثم قام الشيخ المذكور بزيارة الكيان الصهيوني، والتقى بعلماء دين يهود، وأجرى معه موقع “إسرائيل بالعربية” حوارا، قال فيه "إن سبب انفتاحه على الشعب اليهودي نابع عن اعترافي لهم بسيادتهم على أرضهم، وإيماني بالقرآن الكريم الذي اخبر، وأقر ذلك في مواطن كثيرة منه، كما في الآية 21 من سورة المائدة "يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم"، وقوله تعالى في سورة الشعراء|59 "كذلك وأورثناها بني إسرائيل"، أقول للمحرفين عن كتاب ربهم القرآن الكريم من أين أتيتم باسم فلسطين يا كذابين يا ملاعين وقد سماها الله تعالى الأرض المقدسة وأورثها بني إسرائيل إلى يوم القيامة ... إلى آخر ما قاله "، والمعنى هنا واضح، فالتنازل الديني يقود لتنازل ديني جديد، حتى يتم تحرف تفسير القرآن الكريم بما يخدم الكيان الصهيوني، وهنا نتذكر ما قاله "حسن التهامي" الذي كان من ضباط تموز|يوليو الأحرار عام 1952، والمستشار الديني للرئيس أنور السادات الديني، عندما قال للأخير "أنت المبشر به ليدخل الأرض المقدسة وينشر السلام في المنطقة"، وكلها تخاريف سياسية تتستر بالدين.
ولو أننا عدنا لمواقف أكثر وطنية وعروبية، رغم أنها ليست إسلامية، هو موقف البابا الراحل شنودة الثالث بابا الإسكندرية وبطريك الكرازة المرقسية، عام 1980 ، فقد منع الأقباط المصريين من زيارة القدس، لأنه كان يرى أنه في حالة ذهاب الأقباط للقدس سيشجعون السياحة والعملة الإسرائيلية، وميزانية إسرائيل تزيد بسببنا، وقال وقتها: إن مصر أيضًا بلد مقدس، وأنه لن يدخل القدس الشريف إلا ويده مع يد شيخ الأزهر، ووقتها تم اتخاذ القرار بالإجماع في المجمع المقدس، وهو قرار مازال ساريا، رغم أن البابا الحالي تواضروس الثاني قام يوم 26 تشرين الثاني|نوفمبر2015، إلى مدينة القدس المحتلة، ولكنها جاءت زيارة ليصلي على الأنبا إبراهام مطران القدس والشرق الأدنى ودول الخليج، وقال القس بوليس حليم المتحدث باسم الكنيسة وقتها "هذا عزاء وليس أكثر، موقف الكنيسة ثابت ولم يتغير وهو عدم دخول القدس إلا مع إخوتنا المصريين المسلمين جميعا"
إن كل محاولات التطبيع السياسي أو الديني أو الثقافي تسقط تحت ضغوط الضمائر الإسلامية والإنسانية كلها، فالمسلمون ليسوا ضد اليهود، ولكنهم ضد العنصرية الصهيونية، التي تغتصب الأرض وتنتهك العرض. لكننا نكشف من يطبع الدين ليس لخدمة السياسة فقط، بل لخدمة الاستعمار العالمي، وإن غدنا قريب في كشف كل أسباب هذا التطبيع الملعون.