أزمة اللاجئين السوريين... السياسة تتفوّق على البُعد الإنساني
في انتظار حل يُنصف اللاجئين والدول المُضيفة، تعمل الحكومة اللبنانية مع الجهات المانِحة للحصول على مساعدات تضمن قيامها بواجباتها نحو اللاجئين. وقدَّر الحريري أمام مؤتمر بروكسل الذي شاركت فيه 85 دولة ومنظمة في 25 نيسان الماضي، حاجات لبنان للعام الحالي بـ 1،8 مليار دولار، مؤكّداً أن لبنان بات "مُخيّماً كبيراً".
منذ الاندلاعات الأولى للأزمة السورية عام 2011، شجّعت الأطراف الخارجية المُناوئة للنظام، السوريين على اللجوء إلى دول الجوار، أملاً في استخدام اللاجئين ورقة ضغط مُتعدّدة الوجوه: من تجنيد هؤلاء في صفوف فصائل المعارضة إلى المُناداة بمناطق آمنة وحَظْر جوّي، في أفدح استغلال سياسي وعسكري لأزمة إنسانية.
ومع طول أمد الحرب، لم يعد في الإمكان التنكّر للأعباء الاقتصادية والاجتماعية والأمنية التي بدأت تترتّب على أزمة اللاجئين في دول الجوار ولا سيما لبنان والأردن، بينما ألقت تركيا بالأزمة في وجه الاتحاد الأوروبي، من خلال ممارسة سياسة ابتزاز واضحة منذ عام 2015، بعدما غضّت أنقرة النظر عن تدفّق موجات من مئات آلاف اللاجئين من تركيا عبر البحر إلى اليونان ومنها إلى دول أوروبية ولا سيما ألمانيا. ووجد الاتحاد الأوروبي نفسه مُرغماً على دفع 6 مليارات دولار لتركيا كي تمنع تدفّق اللاجئين إلى أوروبا، وأن تقبل بإعادة توطين لاجئين يرغبون بالعودة من دول اللجوء الأوروبي.
ومع تفاقُم أزمة اللجوء، كانت الأمم المتحدة عبر المفوضية السامية للاجئين تتدخّل بالحد الأدنى من تقديم المساعدات للاجئين في لبنان والأردن، ما زاد من الأعباء الاقتصادية على البلدين، وأوجد توتّراً اجتماعياً وأحياناً أمنياً بين اللاجئين والبيئات المُحيطة. وبما أن الأمم المتحدة تخضع في خلفيّة قراراتها للضغوط الأميركية التي لا ترى أنه حان الوقت للتخلّي عن ورقة اللاجئين، فإن المنظمة الدولية لا تشجّع هؤلاء على العودة ولا تُساهم في الوقت نفسه بما يضمن لهم عيشاً كريماً في البلدان التي تستضيفهم. وتحوّلت مفوضية اللاجئين إلى راعية لمؤتمرات التسوّل أكثر منها هيئة مسؤولة عن خطط واضحة تتعاطى مع أزمة اللجوء من مُنطلقات إنسانية، لا سياسية كما هو واقع الحال الآن.
ومن هذا المأزق تتكرّر في لبنان السِجالات بين المُطالبين بعودة اللاجئين السوريين والأمم المتحدة. وآخر الإشكالات نشأت مع وقف وزير الخارجية جبران باسيل منح الإقامات لموظفي مفوضية اللاجئين، بعدما اتّهم الوزير المفوضية بـ"تخويف" دفعة من اللاجئين السوريين يصل عددها إلى ثلاثة آلاف شخص كانت تنوي العودة من مخيّمات في بلدة عرسال، إلى ديارهم. والحجّة التي ساقتها المفوضية للتدخّل في المسألة ، هي أن شروط العودة لا تزال غير متوافرة وألا ضمانات من ألا تُقدم الحكومة السورية على اعتقال العائدين وإجبار بعضهم على تأدية الخدمة الإلزامية في الجيش. وليس هذا الاحتكاك الأول بين المفوضية ومسؤولين لبنانيين. إذ برز التوتّر بين وزارة الخارجية والمفوضية في نيسان الماضي، عندما أعلنت المفوضية عدم مشاركتها في عملية غادر بموجبها 500 لاجىء إلى سوريا من منطقة شبعا اللبنانية، مُحذّرة من "الوضع الإنساني والأمني". وردّت الخارجية اللبنانية مُعتبرة أن ذلك يدفعها إلى "إعادة تقويم" عمل المفوضية.
ولم تتوقّف الأمور عند هذا الحد، بل انطلق على هامش الجدل بين باسيل ومفوضية اللاجئين، سِجال بين المسؤولين اللبنانيين أنفسهم، إذ نأت رئاسة الوزراء بنفسها عن قرار باسيل، مُشيرة إلى أنه اتّخذَ من دون عِلم الرئيس سعد الحريري. ومعلوم أن مسألة اللجوء هي محل جدل بين المسؤولين اللبنانيين منذ سنوات. وطالما حذّر الرئيس اللبناني ميشال عون من "انفجار" بسبب الأعباء المترتّبة على لبنان اقتصادياً واجتماعياً نتيجة وجود اللاجئين السوريين على أراضيه. ويرى فريق من اللبنانيين أنه مع استعادة الدولة السورية سيطرتها على أجزاء واسعة من الأراضي في العامين الأخيرين، فإنه بات في إمكان اللاجئين العودة. لكن فريقاً آخر يرى أن ظروف العودة لا تتوافر إلا بعد التوصّل إلى حلٍ سياسي في سوريا.
وما زاد في تفاقم السِجال الداخلي اللبناني هو الخشية من توطين اللاجئين بحُكم الأمر الواقع، لا سيما بعد صدور المرسوم رقم 10 في سوريا الذي يتعلّق بإعادة بناء المناطق المُدمّرة. وأعطى المرسوم الناس مهلة 30 يوماً للمطالبة بإثبات ملكيّة العقارات في المناطق المُختارة لإعادة البناء والمطالبة بتعويضات. وأُعطي هذا المرسوم تفسيرات شتّى في لبنان. وذهب البعض إلى حد اتهام الحكومة السورية بأنها من خلال هذه الخطوة تقطع الطريق على عودة اللاجئين. وكان هذا أيضاً رأي منظمات دولية تدّعي الدفاع عن اللاجئين. وعملت الحكومة السورية لاحقاً على تمديد المُهلة التي حدّدها المرسوم من شهرٍ إلى عام. وردّ وزير الخارجية السوري وليد المعلم على رسالة من باسيل طالب فيها بإيضاحات حول القرار السوري.
وفي انتظار حل يُنصف اللاجئين والدول المُضيفة، تعمل الحكومة اللبنانية مع الجهات المانِحة للحصول على مساعدات تضمن قيامها بواجباتها نحو اللاجئين. وقدَّر الحريري أمام مؤتمر بروكسل الذي شاركت فيه 85 دولة ومنظمة في 25 نيسان الماضي، حاجات لبنان للعام الحالي بـ 1،8 مليار دولار، مؤكّداً أن لبنان بات "مُخيّماً كبيراً".
لكن الدول نفسها التي شجّعت السوريين على الخروج من بلادهم للضغط على النظام وتوظيف قضيّتهم الإنسانية في مآرب سياسية، لا تزال تتوانى عن مساعدة الدول المُضيفة بما يكفي لتخفيف مُعاناة اللجوء والتعهّدات التي تُطلقها في مؤتمرات الدعم، لا يُنفّذ منها إلا النذر اليسير، بما يترك لبنان عُرضة لضغوطٍ اقتصادية تفوق إمكاناته. ولا يبدو الأردن الذي انفجرت أزمته الإقتصادية في الأيام الأخيرة بحالٍ أفضل. وأُضطرت السعودية والإمارات والكويت إلى تقديم 2،5 مليار دولار مساعدات عاجِلة له للتخفيف من أزمته وعدم هزّ الاستقرار فيه.