أبعاد أزمة الأردن

في جميع بيوتنا طنجرة ضغط، ولكننا لم ننتبه إلى ما انتبه إليه هذا المُنظّر التجريبي ، وهو أنك عندما تقفل طنجرة الضغط وتضعها على النار فإنك تترك لها مُتنفسّاً صغيراً يصفّر باستمرار لكن استمرار اشتعال النار لا بد وأن يؤدّي إلى انفجار الطنجرة – الآنية بعد أن تجف الماء. وحتى لو انتبه الطبّاخ إلى ذلك قبل الانفجار فإنه لا يستطيع أن يفتح الآنية إلا بوضعها تحت الماء البارد طويلاً وإلا انفجرت بوجهه.

هل يعني هذا أن الحراك الأردني مرفوض ؟ لا بل واجب. وهل يعني أن الحكومة ( بكل أجهزتها) غير مسؤولة عنه ؟

دانيال ليرنر ، واحد من أربعة أميركيين أشرفوا على "وكالات إعلام الحرب" في العالمية الثانية، وبعد انتهائها كُلُّف الرجل عام 1948 بالإشراف على  إحدى هذه الوكالات التي  تحوّلت إلى " وكالة البثّ الإذاعي الدولي ".

وعلى رأس مهامه دراسة "كيفية إلحاق الشرق الأوسط بالمعسكر الأميركي" عن طريق الميديا والتنمية. الدراسة – الخطة نُشرِت عام 1958 تحت عنوان : "احتضار المجتمعات التقليدية – تحديث الشرق الأوسط".

(The Passing of Traditional Society: Modernizing the Middle East).

من بين النظريات التي بلورها إثنتان الأولى عنونَت بـ : "انفجار الآنية المغلقة" (انفجار الآنية المغلقة*د.حياة الحويك عطية، العرب اليوم 22/4/2012)

 The Empathyوالثانية بما ترجمت إلى العربية ب : " التقمّص الوجداني ".

في جميع بيوتنا طنجرة ضغط، ولكننا لم ننتبه إلى ما انتبه إليه هذا المُنظّر التجريبي ، وهو أنك عندما تقفل طنجرة الضغط وتضعها على النار فإنك تترك لها مُتنفسّاً صغيراً يصفّر باستمرار لكن استمرار اشتعال النار لا بد وأن يؤدّي إلى انفجار الطنجرة – الآنية بعد أن تجف الماء. وحتى لو انتبه الطبّاخ إلى ذلك قبل الانفجار فإنه لا يستطيع أن يفتح الآنية إلا بوضعها تحت الماء البارد طويلاً وإلا انفجرت بوجهه.

قد أبدو (تيتيا لطيفة أو الشيف رمزي ) ولكن هذا دانيال ليرنر أحد الآباء الأربعة المؤسّسين لعلوم الاتصال الجماهيري. وعلوم التنمية.

الشرطان إذن هما استمرار الاشتعال من خارج، وجفاف السائل داخل الآنية.

هل فكّر أحد بتطبيق هذه النظرية الأميركية الرائِدة على انفجارات المجتمعات العربية واحداً تلو الآخر، ( مع اعتبار الخصوصيات) وآخرها في الأردن ؟ وإذا ما أردنا فإن السؤال الأول الذي يجب أن يُطرح هو : مَن الذي يمسك بيده مفتاح النار ؟ وماذا في داخل الآنية ؟

لا شك في أن الطبقة السياسية والاقتصادية العُليا ( وقد تماهتا بمقتضى العولمة ) مسؤولتان تماماً عن النار التي تتمثّل أولاً في غياب دولة الإنتاج لصالح دولة التسوّل والمنح، غياب استكمل بقضم حضور الدولة ( لا الحكومة) في ملكيّاتها المألوفة عبر عملية خصخصة طالت كل شيء. مع كل ما ينتج عن ذلك من غياب السيادة وما يُسمّى سياسة. وثانياً في غياب العدالة الاجتماعية الناتجة عن الفساد الذي بلغ أوجه ، وغياب مقوّمات الحياة الطبيعية من عملٍ وتعليمٍ وغذاءٍ ودواءٍ بإمكانيات معقولة. غياب يتم تعويضه بهياكل وهمية من برلمان ووزارة ومؤسّسات يسخر من تكوينها وسلطتها كل طفلٍ في الشارع. ونجوم تصعد من فراغ صعوداً يتحدّى القِيَم  الوطنية والأخلاقية. فلا إفقار المواطن يمر ولا استغباؤه يمر. وكلاهما يراكم الوقود.

لكن ثمة سؤال خطير لا بد منه تحت هذه القشرة: هل كان كل ذلك يتم من دون عِلم القوى الخارجية المُهيمنة والداعِمة : الأميركي بالدرجة الأولى، دول الخليج التي تأتمر بالخطة الأميركية ومؤسّسات التمويل الدولية : صندوق النقد والبنك الدولي؟

بل هل كان كل ذلك يمر تحت عين الإسرائيلي من دون ان تكون له يد فيه ؟

بالمقابل ثمة أمر عميق غير الاقتصاد لا يلتفت إليه الناس لأنه في عُمق السيكولوجيا الجمعيّة ، هو ما يُسمّيه  عالِم الاجتماع سيلي : " التوتّر العام أو القهر العام " ، الذي لا ينجو منه أي مواطن حتى لو أراد . القهر التاريخي المُتوالِد كل ثانية من حال فلسطين ، وهزيمة العرب فيها إن لم نقل تآمرهم . القهر المُتوالِد مما جرى في العراق ، والأردن أكثر الدول العربية ارتباطاً بالإثنين . وتكبر القائمة مع ما سُمّي " بالربيع العربي" فمَن وعى قصته منذ البداية اختنق ، ومَن صدّقه ووصل أخيراً إلى الحقيقة اختنق.

كلها نيران تحت الآنية المُغلقة. ولتأجيجها أكثر تروّج منذ التسعينات تحديداً كل أنواع صراعات الهويات الجزئية القاتِلة، من مذهبي واتني ومناطقي واقليمي  في عملية ذكية تجعل كل مخزون القهر هذا يتجه باتجاه الآخر ( كل مَن نرسمه آخر حتى ولو لم يكن) ، وتضيع المواطنة والانتماء. بالمقابل تمّحي شيئاً فشيئاً الثقافة الحقيقية التي اعتبر البريطانيون في منتصف القرن الماضي إنها الضمانة الوحيدة ضد التفاهة والتخريب. ( تييري إيغلتون ومدرسة الدراسات الثقافية ). ويعوم على وجه المشهد الثقافي كم من الأوراق المُنتنة التي تكسو الصفحة.

في هذا الوقت – نعود إلى ليرنر – يعمل الإعلام والتعليم والثقافة والسوق على توريط كل مواطن في حُلم " التقمّص الوجداني" . تقمّص الغرب أولاً بكل ما يقوله ، وكل ما فيه ( ونادراً بالمنجز الذي فيه) من نماذج ومفاهيم وقِيَم استهلاكية مريضة لا يمارسها الغربي نفسه. وتقمّص السلوكيات والنماذج التي تتحوّل إلى حلمِ للشباب المأزومين. هذا التقمّص يتّجه نحو اعتبار ما توحي به المؤسّسات الغربية إلينا ، كحلٍ وحيدٍ لمآسينا، من دون تمحيص ومن دون الانتباه إلى صراعات المصالح بين المجتمعات والدول.

ومن هنا تدخل منظمات التمويل الأجنبي ويتم دمجها خطأ بدائرة منظمات المجتمع المدني . خطأ. لماذا؟ لأن المجتمع المدني هو فضاء المنظمات الوطنية ( أحزاب وجمعيات ومُنتديات) التي تشكّل الفضاء العام المتوسّط بين المواطن والدولة، ما يقتضي – وبإلحاح – استقلاليتها التامة . والعكس يحصل عندما تتبع هذه  للتمويل الأجنبي وشروط المموّل، وهي شروط منظمة ومدروسة تماماً ( مدروسة في أهدافها ومدروسة في استغلالها لنقاط الجذب لدى الشباب والجمهور المُستهدَف).  تعمل على نخر المجتمع الأردني كما تنخر هشاشة العظام العظم. وتقدّم للشباب الفُرَص التي لا يجدونها والإغراءات التي تستلزم مقاومتها مدارس وثقافة من نوع غير القائم . ( وهنا نذكر أن ليرنر اعترف بأنه جنّد 1600 باحِث عربي وتركي ليجمعوا له المعلومات لخطته المذكورة ، فكم جنّد ورثته اليوم ؟ ) أسأل هذا ولا أدّعي أن كل مَن يعمل في جزئيّة يعرف أين ستصبّ.

 هل يعني هذا أن الحراك الأردني مرفوض ؟ لا بل واجب. وهل يعني أن الحكومة ( بكل أجهزتها) غير مسؤولة عنه ؟ لا وهل يعني أن كل الذين في الشارع لا يدرون ماذا يفعلون ؟ لا . هل يعني أنه عفوي ؟ لا ومُضحِك قول ذلك. هل يعني أن فئات ما لن تحاول تخريب الإيجابي فيه؟ لا ستحاول وقد بدأت وسائل التواصل الاجتماعي القذِرة تبثّ إسفيناً بين المدينة والريف، عبر فيديو أبله من هنا وتعليق غبيّ من هناك. لأن الريف يعني العشائر والأردنيين الذين يصعب الالتفاف عليهم والذين تحرّكوا فعلاً للدفاع عن فقرهم وكرامتهم. وسنرى غداً تحريك أسافين أخرى ومداخلها متوافرة وعلينا جميعاً اليقظة إزاءها. فالتفتّت السوري لم ينته بعد ومن بنوده حرب الريف على المدينة.  

الآنية المُغلقة جاهزة للانفجار منذ فترة ، ولكن مُشغّل النار كان يصبّ عليها الماء المُثلِج . ثم المُبرّد ، والآن أحجم . إحجامه جعلها تنفجر. لماذا أحجم ؟ لأنه يريد الضغط السياسي لتمرير صفقة القرن . حسناً، الجميع يعرف ذلك. ولكن تمريرها ليس حكراً على الأردن، وكل ما يحصل من ضغوط في المنطقة العربية  يصبّ في مصبّها، كل وله طريقة ( ألم نر جاريد كوشنير يُهدّد وزير الخارجية الكويتي بتغيير النظام عبر المعارضة ؟ ). وسواء مرّت أم لم تمرّ ، فإن الضغط الأميركي الصهيوني الخليجي على الأردن لن يتوقّف بل سيُؤجّل.

 ( ثمة لقطة مشهورة، خاصة في المسلسلات البدوية، يمسك القوّي فيها بعنق الضعيف حتى يكاد يخنقه، ثم يتركه قائلاً: إن لم تفعل كذا خلال كذا سأعود وأخنقك).

والحل : ليس صعباً ولا مستحيلاً، السير بخطّين مُتوازيين : إصلاح الداخل بكل أمراضه ، وإيجاد توازن في العلاقات الخارجية، توازن لن يلحق الأردن بمحور المقاومة ولا بالجبهة الشعبية ولكنه على الأقل يفتح له باب الخروج من التبعيّة التي كانت مباشرة مع الأميركي ، ولكن يبدو أن المطلوب الآن أن تصبح مركبة لتعبر بعرب الأميركيين  وتحت المظلّة الإسرائيلية.

لقد صبّ رئيس الوزراء ( وبإذن صندوق النقد الدولي)  الماء البارد على الآنية ، فأجّل الانفجار، لكن الحل هو في أن يخمد النار التي تحتها. وأن يترك له أن يفعل.