انتفاضة ثلاثين أيار ودروسها

في ضوء ما سبق ومع استمرار الحراك الذي لن يتوقف وقد يُطيح بأكثر من حكومة، فلا بديل عما يسمّيه غرامشي الكتلة التاريخية أو الجبهة الشعبية الواسعة، وهو الأمر الذي يحتاج إلى مبادرة عاجلة لعقد مؤتمر وطني واسع، يؤطّر الحراك الشجاع المستمر ويحافظ على زخمه، ويصيغ أهدافه تحت شعارات الانتفاضة نفسها، التي تدعو إلى إلغاء نهج التبعية برمّته وفي أبعاده المختلفة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وليس إلى استبدال حكومة بأخرى.

هذه الانتفاضة تجري في سياق متسارع لتحوّل الأردن من دولة ريعيّة وظيفية إلى شكل جديد

منذ انتفاضة نيسان 1989، مروراً بأكثر من انتفاضة مماثلة في الأردن والتي نجحت معظمها بإسقاط الحكومات التي ثارت عليها، إلا أن انتفاضة أيار 2018 مختلفة في لحظتها التاريخية وفي ظروفها وسياقاتها وآفاقها:

1- إن هذه الانتفاضة تجري في سياق متسارع لتحوّل الأردن من دولة ريعيّة وظيفية إلى شكل جديد يقوم الناس فيه عبر الضرائب وغيرها بالإنفاق على الحُكم، وذلك في سياق تحوّل عالمي أيضاً بعد سقوط الكينزية ورأسمالية الدولة الذي رافق الانهيار السوفياتي.

2- إذا كانت الانتفاضات السابقة رفعت شعارات ضد البنك وصندوق النقد الدوليين، إلا أن انتفاضة أيار حدّدتهما كعدو رئيسي للشعب، وكتعبير عن القلّة النهّابة التي تسيطر على الحُكم وتتحكّم في موارد الدولة، وهو ما انعكس في تعميق الوعي الشعبي ضد الطابع العام للإمبريالية المعاصرة، وهو طابع الليبرالية المتوّحشة.

3-  إن المجموعة الحاكمة أبعد عن التوصيف البرجوازي التقليدي، والأدق إنها مجموعة من النهّابين الذين تتغاضى الجهات الدولية عنهم وعن نهبهم، مقابل دورهم في تفكيك الدولة وتحضيرها لأن تكون جزءاً من مشروع الشرق الأوسط، كما رسمه شمعون بيريز ومقرّرات مؤتمر هرتزليا الصهيوني.

ويشار هنا إلى موضوعين هامين:

الأول، أن غالبية العائدات الناجمة عن الضرائب والمساعدات تذهب إلى هيئات نهب شكلية موازية للهيئات والمؤسسات والوزارات، في الموازنة العامة.

الثاني، بخلاف ما يروّجه الليبراليون من أن مشروع قانون الضريبة، هو جزء من خطة لتحديث الدولة، فهو على العكس من ذلك تعبير عن تحلّلها والعودة إلى زمن الجباية العثماني، وبالمثل فإن الحكومة الالكترونية، هي مجرّد داتا لشركات التحصيل والنهب.

4- ربطاً بذلك، فإن فريق البنك وصندوق النقد الدوليين الذي نهبَ البلاد وأهدرَ كرامة العباد، هو ذاته الفريق الذي يجري إعداده منذ سنوات، لتمرير صفقة القرن والمشاريع الأميركية الصهيونية لتصفية القضية الفلسطينية، وهو ما أعطى انتفاضة أيار هذا البُعد المركّب، الطبقي والسياسي.

5- في مواجهة الابتزاز الخليجي (المساعدات والتهديد بطرد مئات الآلاف من الأردنيين العاملين في الخليج) استعاد الشارع الأردني وعيه التاريخي إزاء بيئته الاجتماعية الثقافية السياسية الاقتصادية الحقيقية، وهي سوريا والعراق، التي شكّلت على الدوام الإطار والمُتنفّس الاقتصادي للأردن.

وهو الأمر الذي انعكس في إدراك الغالبية الشعبية الساحقة للمغزى الحقيقي الذي يقف وراء تمزيق العراق، ومحاولة تمزيق سوريا والعدوان عليها، وتوفير الشروط الموضوعية لما يُعرَف بإسرائيل الكبرى.

وهو ما ترافق كذلك مع إصرار القيادة والجيش في سوريا على تحرير درعا وطرد الجيب العميل منها وفتح المعابر أمام الحركة التجارية والاقتصادية الأردنية، وبالمثل فتح العراق أمام هذه الحركة بعد مرور سنوات عديدة من التحريض الطائفي وإغلاق حدود العراق أمام المصالح الأردنية.

6- الطابع الشبابي للحراك، الذي شمل قطاعات واسعة من الشباب، الذين درجت المؤسسات الليبرالية على استغفالهم بوعود مزعومة عن جنات عدن التي تنتظرهم في إطار ما يسمّى برامج التصحيح الاقتصادية، وذلك قبل أن يكتشفوا أنهم جيوش متراكمة من العاطلين عن العمل، أو يعملون في ما يشبه السخرة ولا يجدون ما يكفي قوت يومهم.

7- الحشد الجماهيري غير المسبوق في طول الأردن وعرضه، والذي لم يقتصر على المدن الأساسية بل امتد إلى القرى والبوادي والمخيمات.

8- لقد أعاد الحراك الشعبي الواسع في الأردن الصورة الحقيقية المطلوبة لغليان واحتجاجات الجماهير العربية في كل مكان، وذلك، بعيد الصورة السائدة لربيع الفوضى الهدّامة وقواه وأدواته وتحالفاته.

فمقابل رعاية الدوائر الإمبريالية والصهيونية للإسلام الأميركي وجماعات الأنجؤوز في الربيع المذكور، فإن انتفاضة أيار الأردنية أعادت التركيز على مناهضة سياسات وأداوت البنك وصندوق النقد الدوليين وما تمثله من أذرعة للرأسمالية العالمية.

9- وثمة موضوع شديد الأهمية في ما يخصّ القضية الفلسطينية والأردن معاً، وهو أن الحراك المتنوّع الحاشد للأردنيين بكافة مكوّناتهم، شكّل رسالة قوية إلى سفارات الأطلسي والعدو الصهيوني والرجعية النفطية، بأن الأردن وفلسطين لن يكونا لقمة سائغة لأوهامهم ومشاريعهم التصفوية، وأن الوعي الشعبي الأردني والفلسطيني قادر في كل لحظة على قلب الطاولة على رؤوسهم، والتأكيد على الحقوق الثابتة للشعب العربي الفلسطيني في وطنه وعلى أرضه من البحر إلى النهر.

ومن الرسائل الأخرى ذات المعنى الخاص، الإغلاق المُتزامِن لكل الطُرق المؤدّية إلى العاصمة ومن كل الجهات، وجميعها تنتهي في المحافظات الكبرى، حيث تتركّز مصادر المياه والطاقة.

ملاحظات غير هامشية

ثمة ملاحظات تسترعي الانتباه في انتفاضة ثلاثين أيار وتؤشّر إلى التحوّل النوعي فيها ومنها:

1- الديموغرافيا الاجتماعية التي شملت شرائح طبقية واسعة، كما شملت العاصمة والمدن والقرى والبادية وأبناء المخيمات.

2- الجغرافيا الجديدة للحراك في عمان، حيث انتقلت من ساحة المسجد الحسيني (المفضل عند جماعة الإخوان) إلى الدوار الرابع (مقر رئاسة الحكومة) ومجمع النقابات المهنية في الشميساني.

3- الحضور الكبير للفتيات، وهو حضور كان ملموساً فيه غياب الفتيات المحسوبات على التيار الإسلامي.

4- الأغاني الوطنية، مثل أغاني الثنائي الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، وأناشيد وطنية أخرى مغايرة لأناشيد الاخوان وصيحاتهم.

5- التنظيم والسلوك الحضاري، حيث كان الشباب لايتركون خلفهم أية قصاصة أو علبة ماء فارغة.

الآفاق والمطلوب:

بالتمعّن في خارطة القوى السياسية والمدنية، نجدها جميعاً تعاني من أزمات واضحة:

- الحُكم، أولا بسبب بنيته التابعة واستشراء الفساد فيه والتزامه بمعاهدة وادي عربة وعجزه عن مغادرة ذلك إلى المعسكر الآخر. وثانياً، لوجود أجنحة بيروقراطية فيه تحاول توظيف الحراك ضد الأجنحة الكومبرادورية التي بدأت تتقدّم داخل المطبخ السياسي للحُكم.

- المعارضة الوطنية، بسبب هشاشتها وضعفها.

- الإسلاميون وما يعيشونه من تصدّعات جهوية وسياسية وانعزالهم عن الحراكات الاجتماعية عموماً، وكذلك بسبب دورهم في ربيع الفوضى الأميركية الصهيونية.

- النقابات المهنية ونزعتها المساومة والمتردّدة، الناجمة عن تركيبتها الطبقية، فهي خليط من البرجوازية الصغيرة في القاعدة ومن شرائح عليا لبعضها مصالح مع الدولة والكومبرادور معاً.

- الشارع، الذي لا يمتلك سوى الغضب والاحتقان الاجتماعي والشجاعة، ويفتقد إلى ناظم جمعي.

في ضوء ما سبق ومع استمرار الحراك الذي لن يتوقف وقد يُطيح بأكثر من حكومة، فلا بديل عما يسمّيه غرامشي الكتلة التاريخية أو الجبهة الشعبية الواسعة، وهو الأمر الذي يحتاج إلى مبادرة عاجلة لعقد مؤتمر وطني واسع، يؤطّر الحراك الشجاع المستمر ويحافظ على زخمه، ويصيغ أهدافه تحت شعارات الانتفاضة نفسها، التي تدعو إلى إلغاء نهج التبعية برمّته وفي أبعاده المختلفة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وليس إلى استبدال حكومة بأخرى.