تونس بين قوارب الموت وهجرة الكفاءات
تؤكد أرقام المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية أن عدد المهارجرين غير الشرعيين قد بلغ بين 2011 وتشرين الأول/ أكتوبر 2017 ما يقارب 38 ألف تونسي أي بمعدل 6 آلاف تونسي يصلون السواحل الإيطالية سنوباً. ولعل الدراسة التي أعدها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية سنة 2016 تجيبنا على سبب إصرار حافظ الميعادي على إعادة الكرّة حيث تقول الدراسة إن 54.6% من الشباب (من 18 إلى 35) على استعداد للهجرة، بينهم 31% أبدوا استعدادهم لهجرة غير نظامية.
مثلها مثل الانقطاع المبكر عن الدراسة والفساد أصبحت الهجرة ظاهرة إجتماعية بارزة في المجتمع التونسي. لكن هذه الظاهرة تناولت زاويتين هجرة غير شرعية يعتمدها غالباً أصحاب المستوى التعليمي المتدني ممن يعانون من الإحباط واليأس من إيجاد فرصة عمل محترمة في تونس، وأخرى تعتمد طرق قانونية والتي يعتمدها غالباً الكفاءات، تحملهم إلى دول أوروبا وأميركا أحلام وظيفة أحسن براتب أفضل ومستوى عيش أرقى. وإن تخلّف الهجرة غير الشرعية خسائر في الأرواح ومأسي تعانيها عائلات الضحايا تخلّف هجرة الكفاءات خسائر مادية للدولة بالنظر إلى حجم الاستثمارات التي تضعها الدولة في الجامعات من أجل تخريج الكفاءات وما تعانيه اليوم من نقص في بعض الاختصاصات. لكن أمام عجز وصمت حكومي مريب لا يزال هذا النزيف يتواصل من الجانبين خاصة بالنظر إلى الكارثة الإنسانية التي جدّت مؤخراً في تونس والتي تمثّلت في غَرَق أكثر من 63 مهاجراً تونس قبالة السواحل التونسية كانوا قد انطلقوا من جزيرة قرقنة، نفس المكان الذي انطلق منه قارب خلَّف مأساة هو الآخر في تشرين الأول/ أكتوبر 2017 تمثلت في غرق 46 تونسياً.
إضافة إلى المأسي التي تعانيها عائلات الضحايا، يبقى الناجون في حال نفسية سيئة جداً بعد تجربة الهجرة، حافظ الميعادي واحد من الناجين في حادثة الغرَق التي جدّت السنة الماضية، لا يزال يعيش أزمة نفسية حادّة رغم مضيّ أكثر من 6 أشهر على الحادثة "لا أستطيع النوم بشكل جيّد وفي كل مرة أضع رأسي على الوسادة تراودني كوابيس ليلة الغرَق ووجوه الضحايا إلى الآن عالقة بعقلي"، ليس حافظ وحده يعاني هذه الوضعية زملاؤه أيضاً يعيشون نفس الوضع تقريباً في ظل غياب الإحاطة النفسية. لكن حافظ إلى اليوم ورغم المغامرة الصعبة التي عاشها مصمّم على تحقيق حلمه والوصول إلى السواحل الإيطالية، لماذا؟ لأن الأسباب التي دفعته إلى ركوب قوارب الموت والمخاطرة بحياته لا تزال متوافرة وتتعمّق في كل يوم، يجيب حافظ على سؤال دوافع الهجرة بطريقة تشعرك بباسطة السؤال بالنسبة له "أردت الهجرة لأنني لا أعمل، أنا المعيل الوحيد لأمّي ولكنني لا أعمل وأصدقائي كذلك، لا يوجد اهتمام بالشباب، لا يوجد تشجيع، الجانب السياسي مليء بالفساد، الاقتصاد في تراجع، الأثرياء تكاثروا رغم الوضعية الصعبة، هذا إضافة إلى فقدان الكرامة، والكرامة تأتي مع العمل"، أسباب رآها آلاف الشباب كافية لركوب قوارب الموت منهم من وصل ومنهم من غرق ومنهم من نجا ليعيش مسلسلاً آخر من البطالة لحين توفر فرصة أخرى.
تؤكد أرقام المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية أن عدد المهارجرين غير الشرعيين قد بلغ بين 2011 وتشرين الأول/ أكتوبر 2017 ما يقارب 38 ألف تونسي أي بمعدل 6 آلاف تونسي يصلون السواحل الإيطالية سنوباً. ولعل الدراسة التي أعدها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية سنة 2016 تجيبنا على سبب إصرار حافظ الميعادي على إعادة الكرّة حيث تقول الدراسة إن 54.6% من الشباب (من 18 إلى 35) على استعداد للهجرة، بينهم 31% أبدوا استعدادهم لهجرة غير نظامية.
الهجرة غير النظامية لم تكن الظاهرة الوحيدة التي تهدّد تونس، حيث نمت منذ 2011 ظاهرة جديدة سجلت في بداية 2017 أرقاماً مفزعة وهي هجرة الكفاءات. المثير للاستغراب أن تونس جاءت في المرتبة الثانية بعد سوريا التي تعيش حرباً منذ 7 سنوات وحسب الأمم المتحدة تعتبر الحرب أول سبب يدفع الأشخاص للهجرة أو اللجوء.
تقول أرقام منظّمة التعاون والتنمية الاقتصادية إن أكثر من 94 ألف كفاءة قد غادرت البلاد بين سنتي 2011 و2017. لكن لماذا تونس أتت قبل عدة دول عربية تعيش أوضاعاً أمنية واقتصادية أصعب من تونس بكثير. محمود هرمي 30 سنة مهندس في الإعلامية واحد من المهتمين بالشأن السياسي والذين قرّروا الهجرة إلى كندا يقول مجيباً على هذا السؤال "أول سبب دفعني إلى الهجرة هو حال الإحباط التي أعيشها ويعيشها الشباب التونسي اليوم، ليس هناك أية علاقة بين الشباب وبين ما يدور في أروقة الحكم، البلد في أزمة حقيقة وفي المقابل نجد حرباً ضروساً على المواقع". يعتبر إجحافاً في حق فصيل كبير من الشباب التونسي القول بأن الأسباب المادية هي الوحيدة وراء هجرتهم. فالمتمعّن جيّداً في الواقع التونسي عموماً وفي شريحة الشباب خصوصاً يجد أن أشياء بسيطة تحدث تؤثّر على القدرة على الاحتمال والصبر، كأن ترى عاملاً بمستشفى يهين طبيباً مثلما حدث مع غانم السليمي 33 سنة طبيب تبنيج هاجر إلى فرنسا منذ أشهر ويعمل حالياً بأحد مستشفيات باريس، أو ترى موظفاً فاسداً قد تمت ترقيته أو اكتشاف الغياب الكلي للتشجيعات التي لطاما تحدّث عنها المسؤولون في وسائل الإعلام للباعثين الشباب مثلما حدث مع الكثير من الشباب الطامحين لبعث مشاريع.
في الوقت الذي تتواصل فيه الحرب الضروس بين أطراف الحكم لتحديد هوية الفائز في الانتخابات القادمة، يواصل محمود استخراج الوثائق اللازمة من أجل الهجرة، فيما يبقى حلم الوصول إلى سواحل أوروبا يراود حافظ الميعاد وإن كانت جحيما فهي أفضل من جنة تونس مثلما كتب أحد الشباب التونسيين على أحد الجدران.