عرشٌ يترنّح
ليس ما يشهده الأردن هذه الأيام حركة احتجاجية أو مطلبية بحتة. إنه أشبه بأزمة حُكم أخذ يفقد أدواره الوظيفية الواحد تلو الآخر، ويرفض بالمقابل أداء وظائف جديدة تتناسب مع التغيّرات التي طرأت على المنطقة خلال سنوات ما سُمّي بـ "الربيع العربي" . وإذا كان من الصعب توقّع المسار الدقيق لهذه الأزمة فإن مكوّناتها تكاد تُغشي الأبصار.
المكوّن الأهم يتعلق بالدور التاريخي الذي لعبه الأردن بالنسبة للأماكن الإسلامية المقدّسة في فلسطين والقدس بصورة خاصة. فمن المعروف أن الأسرة الهاشمية تتولّى رعاية الأماكن المقدّسة منذ عشرينات القرن الماضي وورثت الرعاية من السلطنة العثمانية بعد انهيارها خلال الحرب العالمية الأولى. وهذا ليس مفاجئاً فالأسرة نفسها كانت ترعى الحرمين الشريفين في مكّة بتكليفٍ من "الباب العالي".
لم يطعن الفلسطينيون بهذا الدور رغم اختلافهم مع العرش والحرب الأهلية الأردنية الفلسطينية عام 1970. ويُلاحَظ في هذا الصدد أن قرار فصل الضفة الغربية عن الأردن عام 1988 في إعلان الدولة الفلسطينية، استثنى الأماكن المقدّسة وقرّر أن تبقى تحت رعاية الأسرة الهاشمية.
ولم تطعن إسرائيل أيضاً بهذه المهمة التي وردت في المادة التاسعة من اتفاقية "وادي عربة" عام 1994 وتنصّ حرفياً على احترام "إسرائيل للدور الخاص للمملكة الأردنية الهاشمية في الأماكن المقدّسة الإسلامية، وتُعطي إسرائيل الأردن أولوية عالية لتحديد مصير الأماكن المقدّسة" في مفاوضات الحل النهائي للقضية الفلسطينية.
وأخيراً تم التأكيد على هذا الدور في الاتفاق الأردني الفلسطيني عام 2013 بين عبدالله الثاني والرئيس محمود عباس، وينص على أن يحتفظ الأردن بالإشراف على المقدّسات الإسلامية حتى قيام الدولة الفلسطينية المستقلة.
هذا الدور التاريخي منح الأسرة الهاشمية سلطة معنوية وحقوقية في غاية الأهمية وجعلها طرفاً أساسياً في الحل النهائي للقضية الفلسطينية فضلاً عن أن 65% من أبناء الشعب الأردني من ذوي الأصول الفلسطينية.
تلقّى هذا الدور صفعة مُزلزِلة عندما قرّر الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل وسحبها من ملف المفاوضات. حدث ذلك من دون مشاورات مُسبَقة مع الأردن ومن دون عِلم الأسرة الهاشمية التي اعترضت على ما جرى من دون أن تكون لديها القدرة على تغيير مصير القرار الذي ألغى وظيفة أساسية للنظام الهاشمي بل أحد اهم مرتكزات شرعيته ليس فقط عبر إخراج القدس من ملف التفاوض، وإنما أيضاً عبر اعتماد السعودية وإسرائيل كطرفين أساسيين في تهميش الصراع حول فلسطين وطيّ صفحة القضية وفتح صفحة النزاع مع إيران وحشد القوى العربية في هذا الصراع.
تقاطع هذا الحدث مع مكوّنات أخرى لأزمة الحكم المُشار إليها أعلاه. فقد رفض الملك عبدالله الثاني الاستجابة لإملاءات وليّ العهد السعودي بإرسال وحدات مقاتلة على الأرض في اليمن وقرّر أن يقتصر دور الأردن في عاصفة الحزم على طلعات جوية. كما رفض تصنيف الإخوان المسلمين حركة إرهابية، ومقاطعة قطر، وامتنع عن تصدّر المواجهة مع إيران، بل استجاب للقمّة الإسلامية في تركيا من أجل رفض ضمّ القدس وصافَح حينذاك الرئيس الإيراني حسن روحاني بحرارة، ولعلّه يدرك أهمية علاقات الأردن مع العراق وتأثير أصدقاء إيران العراقيين في بغداد.
كان من الطبيعي أن تترتّب على هذه الإجراءات نتائج اقتصادية خطيرة من بينها حرمان الأردن من الغاز المصري بقيمة أكثر من أربعة مليارات يورو، ومن المساعدات الخليجية والدولية رغم عِلم الجهات المانحة أن هذا البلد يعيش على المساعدات وأن حجْبها سيؤدّي بالضرورة إلى اضطرابات شاهدنا بوادرها الأولى الأسبوع الماضي.
وكأن ذلك كله لا يكفي، فكان على الأردن أن يخضع لإملاءات البنك الدولي حتى يحصل على قرض بقيمة 730 مليون يورو. وتنصّ شروط العقد على رفْع الدعم عن بعض المواد الأساسية وفرض ضرائب جديدة الأمر الذي شاهدنا آثاره الخطيرة بأمّ العين مؤخراً.
يملي ما سبق خلاصة مفادها أن النظام الهاشمي تلقّى صفعةً أميركية هي أشبه بحرمانه من الشرعية ورفع التغطية عنه عبر إهماله ومن ثم وضعه في موقع ضعيف بمواجهة الإملاءات السعودية حتى إذا ما رفض، يُترَك لمصيره كما تُرِك زين العابدين بن علي وحسني مبارك من قبل.
عبّر الملك الهاشمي عن هذه اللحظة التي تمر بها بلاده بصراحة غير معهودة إذ قال "نحن على مفترق طرق فإما أن نحل مشاكلنا بوسائلنا أو ندخل في المجهول". أما الحل بالوسائل الأردنية فيعني اعتماد نظام ضريبي يُجبي من "الطبقة الوسطى" ما يمكّنه سد العجز ويتيح الكشف عن الفاسدين ويساعد الفقراء الأردنيين على تدوير مداخيلهم آخر الشهر بنجاح الأمر الذي رفضه المتظاهرون الذين يتوقون لحلٍ جذري يتغيّر معه وجه المملكة السياسي والاقتصادي.
تنطوي الخطوات المُتسرّعة التي اتّخذها الملك عبدالله للتصدّي للأزمة على سوء تقدير لعُمقها. فقد ألغى الزيادة على الكهرباء ومشروع الزيادات الضريبية الجديدة، وعيّن رئيس حكومة جديد هو الثامن خلال عشر سنوات ومن العاملين سابقاً في البنك الدولي، الأمر الذي لا يتناسب أبداً مع صُراخ المحتجّين في الشوارع ضد هذه المؤسسة القاتِلة لمداخيل الفقراء في كل مكان.
لا توفّر هذه الإجراءات حلولاً سحرية للأزمة التي تتطلّب خيارات راديكالية من نوع إعلان الملكية الدستورية وتجميد اتفاقية وادي عربة، وتعيين حكومة نزيهة، والطلب من الناس تضحيات لأجلٍ مُحدّد. لكن ذلك على أهميته، لا يضمن على الأرجح سلامة النظام الذي قد يسقط خلال المرحلة الانتقالية بين محورين.
وبعد.. ماذا عن آثار انهيار الدولة في بلد يلعب دور الحاجز بين سوريا والعراق والسعودية والكيان الصهيوني؟ وماذا عن البديل لهذا النظام؟ أيكون جمهورياً يختار فيه الناس حكّامهم وهم كما لاحظنا فلسطينيون بأكثر من 65%؟ أيُراد من حكومة بديلة ذات غالبية فلسطينية في الأردن الوصول إلى العرش الهاشمي وطيّ صفحته وفتح صفحة فلسطينية تكون بديلة عن فلسطين؟ من غير المُستبعَد أن يتم هذا الأمر. فنحن نعيش في عالم يريد دونالد ترامب أن يكون على هيئته المتوحّشة. بالانتظار يظهر لنا أن النظام الأردني يترنّح والمصير الأفضل الذي نتمنّاه له هو أن يخرج سالماً من هذه الأزمة الطاحِنة وأن يعود محملاً بوعودٍ إنسانية يستحقها الأردنيون في كل آن.