إدلب مأزق أنقرة أم فرصة لها؟

ولا يقتصر التحدّي الذي يمكن أن تواجهه أنقرة على متغيرات المعادلات الدولية وانعكاساتها الاقليمية وحسب، بل بدا من الواضح، بعد مضي حوالي 20 يوماً على حصول تركيا على تفويض لتسوية وضع محافظة إدلب أن أنقرة لا تملك أدوات هذه التسوية وليس لديها القدرات ولا الامكانيات لتفكيك العُقد التي تحيط بها.

كل ما يقال حالياً عن تشكيل "الجبهة الوطنية للتحرير" ودورها القادم في قتال "النصرة" يظلّ مفتقراً إلى ما يدعمه ويؤيده

إمساك أنقرة بملف مدينة إدلب بموجب تفويضٍ غير معلنٍ حصلت عليه في اجتماع استانا التاسع منتصف الشهر الماضي، أدّى إلى تعميق المكاسب الميدانية والسياسية التركية في الملف السوري التي كان أهمّها مؤخراً احتلال الجيش التركي لمدينة عفرين، وحصول أنقرة على توقيع أميركي لاتفاق خارطة طريق حول مدينة منبج الاستراتيجية. فضلاً عن ذلك تُضاف السيطرة السابقة لـ "قوات درع الفرات" المدعومة تركياً على شريط يمتد من مدينة جرابلس إلى إعزاز. وهو ما يعني عملياً أن المساحة الجغرافية التي باتت خاضعة للتأثير التركي هي مساحة ضخمة وواسعة ومؤثرة في الوقت ذاته.

ما ضاعف من أهمية المكاسب التركية أنها جاءت متزامنةً مع بعضها بعضاً قبيل أسابيع قليلة من الموعد المقرّر أن يشهد أهم انتخابات في التاريخ التركي الحديث، في 24 الجاري. وربّما بات بإمكان الرئيس التركي رجب طيب إردوغان أن يتّكأ على هذه الانجازات وعلى تهديداته باجتياح سنجار العراقية وغيرها من الخطوات التوسعية، ليشحذ عزيمة أنصاره ومؤيديه بصور وخيالات تلوح فيها روح العثمانيين الجدد، سعياً منه للحصول على أعلى نسبة أصوات تتيح له تكريس شرعية النظام الرئاسي الذي سيدشنه في أعقاب الانتخابات.

غير أن هذه المكاسب بتناقض أطرافها ورعاتها، وتباين مرجعياتها وأحكامها، باتت تحمل في طياتها بذور الضعف التي يمكن أن تؤدي إلى تآكل الدور التركي، ما لم تستطع أنقرة اجتراح حل سحري يكون كفيلاً بإنهاء جميع التناقضات التي تحيط بدورها ومصالحها في الملف السوري.

وليس عدم اليقين التركي في التعاطي مع حليف الأمس الولايات المتحدة الأميركية، أو شريك اليوم روسيا، وحده ما يزعزع المصالح التركية ويجعلها تقوم على أرضية غير ثابتة. فهناك العديد من العوامل الأخرى المتعلقة بالملف السوري نفسه وبعضها بتعقيدات الوضع في محافظة إدلب خاصةً، والتي من شأنها أن تجعل تكرار سيناريو الغوطة أو ربما الأحرى سيناريو حلب الشرقية أمراً أكثر من وارد وخصوصاً ما يتضمنه هذا السيناريو من خيبة أمل تركية ومرارة لا يمكن نسيانها.

دولياً، كان من اللافت أن الولايات المتحدة تعمّدت في أعقاب اجتماع آستانة إصدار قرار يقضي بتصنيف "هيئة تحرير الشام" على قوائم الارهاب. وهي بلا شك رسالة أميركية موجهة إلى روسيا راعية مسار آستانة ومبدعته ومخرجته، لكنها موجهة بالقوة نفسها أيضاً إلى تركيا المتوثبة لاقتناص ما يمكنها اقتناصه جراء الصراع الروسي الأميركي على النفوذ في المنطقة. وفي المقابل لم تعبر خارطةُ الطريق التركية الأميركية حول منبج دون اعتراضٍ سجلته القناة المركزية لقاعدة حميميم التي اعتبرت الاتفاق بأنه باطل. وهذه المواقف الروسية الأميركية المتعارضة تجعل المكاسب التركية رهينة تطور العلاقة بين الدولتين العظميين واضعةً إياها في ربقة  التهديد طوال الوقت مما يفقدها أهميتها الاستراتيجية على الأمد البعيد.

والمفارقة أن تذكير واشنطن للصفة الإرهابية لتنظيم "هيئة تحرير الشام" من شأنه أن يدعم مستقبلاً أي مسعى للقيام بعملية عسكرية واسعة في إدلب بذريعة محاربة الإرهاب. وقد يكون هذا التنبيه لوجود ذرائع تبرر العمل العسكري محاولةٌ أميركيةٌ لخلط الأوراق في محافظة إدلب وصولاً إلى الغاية الرئيسية وهي تفجير مسار أستانا من داخله. والوجه الآخر لهذا المسعى الأميركي هو دقّ إسفين بين أنقرة و"هيئة تحرير الشام" لمنع أي تنسيق بين الطرفين لتنفيذ بنود استانا، ما سيفضي في نهاية المطاف إلى تأكيد أرجحية العمل العسكري سواء من الجانب التركي أو الجانب السوري.

ولا يقتصر التحدّي الذي يمكن أن تواجهه أنقرة على متغيرات المعادلات الدولية وانعكاساتها الاقليمية وحسب، بل بدا من الواضح، بعد مضي حوالي 20 يوماً على حصول تركيا على تفويض لتسوية وضع محافظة إدلب أن أنقرة لا تملك أدوات هذه التسوية وليس لديها القدرات ولا الامكانيات لتفكيك العُقد التي تحيط بها. وقد يكون الحوار في موقع إعلامي مع مسؤول المكتب السياسي في "هيئة تحرير الشام" الدكتور يوسف سعيد الهجر وما تضمنه من إشادة ملفتةٍ بالموقف التركي "الحليف للثورة السورية" ثم اختفاء الحوار من صفحات الموقع من دون أي تبرير أو تفسير، مؤشراً هامّاً على طبيعة الارباك الذي تعاني منه أنقرة في التعامل مع هذا الملف.

ودليل ذلك أن أنقرة لم تُقدم حتى اليوم على اتخاذ اي إجراء لتنفيذ متطلبات آستانة واشتراطاته، كما أنها لم تتجاسر بنفسها أو عبر وكلائها على إعلان الحرب ضد "جبهة النصرة" كما فعلت ضد "داعش" منذ عامين تقريباً عندما قررت قتال فلوله في ريف حلب الشمالي تحت إسم "عملية درع الفرات". وكل ما يقال حالياً عن تشكيل "الجبهة الوطنية للتحرير" ودورها القادم في قتال "النصرة" يظلّ مفتقراً إلى ما يدعمه ويؤيده خاصة أن غالبية الفصائل المشاركة في تشكيل هذه الجبهة معروفة بعلاقاتها الودية مع جبهة النصرة ورفضها الانخراط في القتال ضدها، من فيلق الشام إلى جيش إدلب الحر وغيرهما.