العراق: الأمن المائي أو الخضوع للهيمنة؟
تناقلت وسائل الإعلام المختلفة صوَر جفاف نهر دجلة في العراق، بسبب قيام الأتراك بقطع المياه عن العراق تمهيداً لملء سدّ "إليسو" الذي أنشئ على نهر دجلة. وكانت تركيا والعراق قد اتفقتا في وقت سابق على أن تقوم تركيا بتأجيل ملء سدودها إلى حزيران الجاري، لكن الحكومة التركية لم تلتزم الاتفاق وبدأت بملء السدود في آذار الماضي.
وبغضّ النظر عن هذه المشكلة المُتفاقِمة اليوم، فإن المشاكل على المياه بين كل من سوريا والعراق من جهة وتركيا من جهة، هي مشاكل قديمة يعود تاريخها إلى فترة تأسيس الجمهورية التركية وما بعدها، وقد تفاقمت مرات عديدة، حين هدّد العراق باستخدام القوّة ضد تركيا مرات عدّة لإجبارها على ضمان حصّته المائية من دون تجاوز. تكمُن المشكلة الأساسية لنهريّ دجلة والفرات في أن تركيا لا تعترف بالطابع الدولي لهما، وإنما تُطلق عليهما صفة "المياه العابِرة للحدود"؛ ما يعني أن تركيا تعتبر تلك المياه جزءاً من مواردها الخاصة ويحق لها بالتالي أن تمارس كامل السيادة عليها وأن تستثمرها كما تشاء من دون أية تبعات دولية.
إن الإقرار التركي بنهريّ دجلة والفرات كنهرين دوليين، يعني بالتالي أنهما مشمولان بقواعد القانون الدولي بالمياه، أي احترام الاستخدام العادِل والمُنصف للمصادر المائية، والتنسيق بين دول المنبع والمصب لاقتسام المياه، والتزام التعاون على أساس المساواة السيادية للدول المُتشاطئة لتحقيق الفوائد المُتبادَلة.
عملياً، تحكم اتفاقية عام 1982 العلاقة المائية بين كلِ من تركيا والعراق ، وهي الاتفاقية التي ظلّت سارية المفعول بما يخصّ نهر الفرات. أما سوريا، فقد وقّعت مع تركيا عام 1987 اتفاقية مبدئية لمدة خمس سنوات تتعلّق بالفرات، وافقت تركيا بموجبها أن تسمح بتدفّق خمسمئة متر مكعب في الثانية من نهر الفرات إلى سوريا. وطلب العراق بأن يكون طرفاً في تلك الاتفاقية وفي الاتفاقيات الأخرى الخاصة بالمياه، إلا أن تركيا رفضت الطلب العراقي، فعقد العراق اتفاقية تقاسُم المياه مع سوريا لاقتسام مياه نهر الفرات بنسبة 58 ٪ للعراق، و 42 ٪ لسوريا.
لقد استطاع الرئيس السوري حافظ الأسد، في الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين، أن يقرّ معادلة قوّة وردع مع الأتراك، استطاع من خلالها حفظ حصّة سوريا بالمياه ؛ قوامها "الأمن مقابل المياه". استغل السوريون ورقة حزب العمال الكردستاني للضغط على الأتراك للقبول بإعطائهم حصّتهم من المياه. وكان قد وصل التوتّر بين البلدين حول المياه عام 1998، إلى مرحلة كادت تؤدي إلى حربٍ اقليميةٍ بين الدولتين، بعدما هدّد رئيس الوزراء التركي مسعود يلماز بإغلاق سد أتاتورك بالكامل ومنع المياه عن سوريا، بسبب ما اعتبره دعماً سورياً للحركات الكردية الانفصالية. انتهت الأزمة بتوقيع اتفاق أضنة الأمني بين سوريا وتركيا، تعهّدت فيه سوريا بالتوقّف عن دعم حزب العمال الكردستاني، مقابل أن تقدّم تركيا تنازلات سياسية ومائية.
واستفادت تركيا من موجة ما سُمّي "الربيع العربي"، فبدأت ببناء مشاريع مائية ضخمة وسدود وبحيرات اصطناعية، وبدأت بقضْم حصص كل من سوريا والعراق من المياه. وبعد عام 2014، استغلّ الأتراك تهديدات "داعش" بتفجير السدود في كلٍ من العراق وسوريا، ومنها سد الموصل وسدّ الفرات وغيرها، للتذرّع بخطر الفيضان الذي قد ينجم عن التفجير وانهيار سدّ الموصل، فقلصّوا بشكلٍ غير مسبوق حصّة البلدين من المياه، وما زال القضْم مستمراً لغاية اليوم.
المشكلة تكمُن اليوم، في الضعف الذي تعانيه دولتيّ العراق وسوريا والذي يجعل من الطرف التركي أقوى في المعادلة التفاوضية السائدة، فلا قوّة يمكن الاعتداد بها للضغط على الاتراك لمنع الهيمنة على المياه في المنطقة. يبقى أنه يمكن للعراقيين، اللجوء إلى الوسائل الدبلوماسية والتحكيم الدولي - ولو أننا لا نعوّل كثيراً على القدرة على الضغط على تركيا في هذا المجال- حيث تتمّ المطالبة بإلزام تركيا بمبدأ "المسؤولية الدولية عن الإضرار بالغير" والُمعترَف به كقاعدة عُرفية منذ إعلانه في حُكم محكمة العدل الدولية لعام 1949 في قضية مضيق كورفو، والذي تمّ إقراره في المادة السابعة من اتفاقية عام 1977 (اتفاقية الأمم المتحدة حول استخدامات المجاري المائية الدولية للغايات غير الملاحية) والتي نصّت على الامتناع عن التسبّب بأضرارٍ جسيمةٍ للدول الأخرى عند استخدام المجرى المائي الدولي. كما حظّرت المادة 21 من الاتفاقية نفسها القيام بالأعمال الهادِفة إلى تحويل المجرى المائي الدولي أو تحويل وخفض جريان المياه ومنسوب المجرى.
إذاً يبدو العراق اليوم مُهدّداً بالعطش والجفاف والتصحّر، وقد يستفيد الأتراك اليوم من الضغط المائي على العراق لأخذ مكاسب في السياسة والاقتصاد معاً. في السياسة، سيكون باستطاعة الأتراك فرض ضغوط متعلّقة بالمناطق الكردية التي يقولون إنها تشكّل خطراً على أمنهم القومي، كما سيكون باستطاعة الأتراك اليوم الضغط على العراقيين المُهدّدين بالعطش لفرض توجّهات معينة مُتعلّقة بمرحلة تشكيل الحكومة العراقية الجديدة على ضوء ما أفرزته الانتخابات البرلمانية العراقية. أما اقتصادياً وهو الأخطر، فيرتبط بما تمّ تسريبه من عرض مُقايضة "النفط مقابل المياه"، أي أن الجانب العراقي المفاوِض سيكون في مأزقٍ حرجٍ لخفض أسعار النفط المُصدّر إلى تركيا، بحيث يكون النفط بسعر المياه ولا نتفاجأ إن بات النفط العراقي أرخص من المياه!.