أوروبا العاجِزة أمام ترامب
الجميع كان يعي أنّ ترامب لايعوَّل عليه في ضمان استمرارية الاتفاق النووي الإيراني، لكن أمل التعديل أو إدارة الأزمة بفعالية أكثر حصافة وعقلانية ظل يُخالج عقول القادة الدوليين عامة والأوروبيين خاصة... وذلك من أجل الحفاظ على تنسيق وخطة عمل جماعية مشتركة. .وتفعيلها بطريقة تخدم جميع الأطراف في التعامل مع الجبهات المفتوحة في مجموعة من الدول المشاركة في هذا الملف النووي الهام.
إن محاولة فرنسا الجادّة في إرضاء جميع الأطراف باءت بالفشل وتلاشى معها دور الوساطة التي كان المراقبون يأملون لها أن تنجح، ومن هنا يبرز السؤال إلى أي مدى سيؤثّر هذا القرار على سَيْر مفاوضات السلام ومحاولات الحلحلة التي يسعى الاتحاد الأوروبي جاهداً لترسيخها في هذه البقعة المُشتعلة من العالم؟
ترامب وتقنية الانسحاب
لم يكن انسحاب ترامب من الاتفاق مُفاجئاً، بل أصبح مُعتاداً وأمراً متوقّعاً.. مع رئيس أصبح أنموذجاً متفرّداً في التغريد منفرداً عمن سبقوه ومن هم حلفاء له.. والانقلاب أيضاً على الاتفاقات التي قامت بها الإدارات الإميركية السابقة.. وخصوصاً إدارة سلفه أوباما.. فترامب قطع وعداً بالانسحاب من كل الاتفاقيات التي تتعارض مع المصالح الأميركية أو العودة إلى التفاوض حول تغيير شروطها وكل ذلك حسب رؤيته ومعاييره الخاصة به وإدارته. فقد سبق له أن تراجع عن اتفاقية المناخ قبل أشهر، ولم يضيّع أية فرصة للحديث عن ذلك مباشرة أو تلميحاً، لكن زيارة ماكرون الأخيرة أعطت بصيصاً من الأمل في إمكانية نجاح الدبلوماسية الناعمة عبر تنسيق أو تغليب المصالح وإعمال العقل، خاصة وأن اغلب الدول الأوروبية تربطها علاقات حيوية وجيوسياسة مع إيران.
ترامب يلوي ذراع الاتحاد الأوروبي
يبدو أن أولى النقاط الموجِعة لنقض هذا الاتفاق بالنسبة للاتحاد الأوروبي وبالإجماع يظل الجانب الاقتصادي وإن لم يكن مقصوراً على ذلك وحسب.. فبعد توقيع الاتفاق النووي سارعت إيران إلى خلق تشبيك وعلاقات اقتصادية كبيرة مع دول الاتحاد الأوروبي في فترة قياسية وفي خطوة بدت للمراقبين مدروسة ومحسوبة وذات بُعد نظر استراتيجي.. فخلال العام الذي تلى التوقيع على الاتفاق بلغ حجم التبادلات التجارية بين إيران والاتحاد الأوروبي ما يُضاهي المليار دولار ، وارتفعت نسبة هذه التبادُلات إلى 200% بالرغم من القيود التي لازالت مفروضة على التحرّكات المالية الإيرانية. وشملت شركات عملاقة في أكثر من دولة أوروبية وفي أكثر من مجال وبصفقات بلغت مليارات الدولارات... من شركات كبرى على وزن توتال الفرنسية ورينو وفولسفاغن الألمانية .. وإيرباص الأوروبية للطيران.
فما سبب اختيار ترامب لهذا التوقيت واضعاً علاقته مع الأوروبيين على المحك وضارباً عرض الحائط باتفاق استنزف أكثر من 12 سنة.. واجتماع أكثر من ست دول اشتغلت على قدمٍ وساقٍ على هذا الاتفاق ليصل إلى صيغته الحالية وبمشاركة أميركا نفسها؟ لماذا لا يثق ترامب بمُراقبي مختلف الجهات الدولية والتي تؤكّد أن إيران التزمت تنفيذ هذا الاتفاق بحذافيره؟ هل أحرج ترامب أوروبا بوضعها بين مطرقة انسحابه من الاتفاق النووي وسندان مصالحها الاقتصادية لاسيما في ظلّ الوضع شبه العليل لاقتصاد الاتحاد الأوروبي والتهديد بتفكّكه وخاصة بعد خروج المملكة المتحدة ؟
رغم الرسائل المُطمئنة التي بعثها ترامب إلى شركائه الأوروبيين في ما يتعلق بضمان الحفاظ على مصالحهم الاقتصادية ، إلا أن الغرب لا يثق كثيراً بتصريحات الرئيس الأميركي الدغمائية المتكرّرة والمُتصلّبة دوماً.. ويعي تماماً أن الوعود لا تُبنى فقط على الأقوال وهذا نفس ما تفكّر به إيران التي طالبت بضمانات أوروبية للاستمرار في الاتفاق والمحافظة عليه.
التساؤل الذي يطرح نفسه: كيف وأين ومع مَن ستجد أوروبا نفسها؟ ومَن ستختاره شريكاً استراتيجياً هذه المرة... ومَن سيتقلّص دوره إلى مجرّد حليفٍ تكتيكي ؟ فهل ستتّجه أنظارها نحو الصين وروسيا؟ ستظلّ الإجابة عن هذا السؤال محدّداً رئيساً في لعبة التحالفات للمرحلة القادمة.
هل ستغامر أوروبا بتهديد علاقتها بشريكها التاريخي والاستراتيجي الهام المُتمثّل في الولايات المتحدة الأميركية والتي تربطهما علاقات مُتكاملة ومُترابطة منذ قيام هذه الأخيرة ، أم ستتخلّى عمن تراه حليفاً لابدّ منه لإدارة الأزمات والصراعات المُلتهبة في الشرق الأوسط، بل وقد يتعدّاها إلى المغرب العربي ؟ إيران وفرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة لمُناقشة الاتفاق النووي الإيراني في بروكسل. بعد قرار الرئيس الأميركي المُدوّي بالانسحاب من الاتفاقية ، يستقبل وزير خارجية الاتحاد الأوروبي وزراء خارجية هذه الدول ، في حين أن الأوروبيين عازمون على إنقاذ الصفقة / الاتفاقية مع إيران.
التحالفات الدولية الجديدة أين ومع مَن سيصطفّ الاتحاد الأوروبي؟
روسيا والصين هل ستكونان البديل لاسيما وأن روسيا تُعتبر شريكاً مهماً في توفير الطاقة ، مع التذكير بأن روسيا لا يُؤْمن جانبها كذلك ، فقد سبق وأن تسبّبت في أزمة خانِقة لأوروبا عندما أوقفت تصدير الغاز - قيل حينها أن السبب هو عدم عدالة الأسعار!! ترامب يضع أوروبا على مُفترق طُرُق وأمام خيارات مُتعدّدة يصعب التنبوء بها، وفِي انتظار حل جذري اختارت أغلب الشركات الأوروبية ألا تكون بارود المدافع ولا ذخيرة الحرب الدبلوماسية التي تلوح في أفق العلاقات الأوروبية الأميركية ، وفضّلت الانسحاب بأقل ضَرَر مُمكن في انتظار غدٍ أفضل.. لايلوح في آفاقه الرئيس المُغرّد ترامب ولا تصرّفاته وأفعاله التي لايتوقّعها أحد.