عودة الاتحاد السوفياتي؟
في العهد البوتيني الثاني، وبعد ترسيخ أسُس الاقتصاد والدفاع، انطلق بوتين إلى استراتيجية العودة إلى العالمية، مستفيداً من التطوّرات السورية والأوكرانية، فانخرط الروس في معارك ضد الغرب عسكرياً (حروب الوكلاء) وسياسياً ودبلوماسياً من دون مواربة وبلا خجل.
لم تكن نتيجة الانتخابات الروسية مُفاجئة، بل كان الجميع يجزم بأن بوتين سيربح الانتخابات بأرجحية مُطلقة، لذا وانطلاقاً من هذه المُسلّمة، كل ما كان الغرب يتمنّاه في المعركة المفتوحة مع الروس هو تقليص عدد المُقترعين في الانتخابات للنيل من مشروعيّتها الشعبية، أو على الأقل حصول بوتين على نسبة أدنى من انتخابات عام 2012 للقول بأن سياساته الخارجية باتت تؤثّر عليه داخلياً، وهو ما لم يحصل بدليل حصوله على ما يزيد عن 76% من الأصوات، وهي أعلى نسبة يحصل عليها بوتين في الدورات التي خاض فيها الانتخابات منذ عام 2000 ولغاية اليوم.
وبقراءة للتطوّرات التي حصلت في روسيا منذ وصول بوتين إلى الحكم ولغاية اليوم، نجد أن العهد الرئاسي الأول لبوتين كان مُنصباً على تحفيز الاقتصاد والنمو، وتشجيع الاستثمارات ومكافحة الفساد والتقليل من سيطرة المافيات، وهو ما جعل الاقتصاد الروسي يحقّق نمواً هائلاً، ويرتفع الناتِج القومي، وتحقّق القدرة الشرائية ارتفاعاً بنسبة 72% بحسب إحصاءات صندوق النقد الدولي.
وبالرغم من اهتمام الروس بالاقتصاد وانشغالهم بالقضايا المحلية في تلك الفترة، إلا أن الغرب لم يستسغ وجود رئيس قوّي في روسيا، فشهدت تلك الفترة تدخّلاً غربياً كثيفاً في الحديقة الخلفية لروسيا، ومحاولة تطويق موسكو عبر تشجيع الثورات الملوّنة في جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، فسقط الحُكم الموالي للروس في كل من أوكرانيا وجورجيا وقرغستان، وانضمّت دولٌ أخرى إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، وبدا أن نظرية "الدومينو" يمكن أن تُطبّق في كلٍ من البلقان وآسيا الوسطى بشكلٍ يحصر الروس ضمن محيط مساحة جغرافية معادية تابعة للغرب، ما يمنع أية عودة "للدبّ الروسي" إلى الساحة الدولية.
ولم يتأخّر الردّ الروسي كثيراً، فالتدخّل الروسي العسكري في جورجيا رداً على الاستفزازات التي قام بها الرئيس الجورجي ساكاشفيلي خلال عهد الرئيس ميدفيديف، أرّخ لمرحلة جديدة، أدرك معها الروس أن الغرب لن يتسامح مع عودة روسيا كدولة قوية، وأيقنوا أن أحلام التعاون الدولي مع الغرب من دون تحصيل قوة كافية ستكون وصفة لمزيد من التقهقر، فكان القرار بتحديث الجيش الروسي وتجهيزه، بعدما تبيّن من الحملة العسكرية الروسية في جورجيا، أن الجيش الموروث من الاتحاد السوفياتي بمعدّاته وهيكليته القديمة لن يفي بغرض الدفاع عن المصالح الروسية في العالم والاقليم.
وفي العهد البوتيني الثاني، وبعد ترسيخ أسُس الاقتصاد والدفاع، انطلق بوتين إلى استراتيجية العودة إلى العالمية، مستفيداً من التطوّرات السورية والأوكرانية، فانخرط الروس في معارك ضد الغرب عسكرياً (حروب الوكلاء) وسياسياً ودبلوماسياً من دون مواربة وبلا خجل.
واليوم، واستكمالاً لمسيرة العودة إلى الساحة العالمية، وانطلاقاً من قول بوتين خلال حملته الانتخابية، إن الحدث التاريخي الرئيسي الذي ودّ لو كان بإمكانه تغييره هو انهيار الاتحاد السوفياتي، يمكن إدراج تصوّر أولي لما ستكون عليه ولايته الرابعة، الممتدة لغاية 2024، والتي يمكن تلخيص أهدافها بتكريس التعدّدية القطبية، ومحاولة كسر احتكار الغرب والأميركيين خاصة للقرارات العالمية، ما يعني مزيداً من عدم الاستقرار العالمي وتسريع وتيرة افتعال الأزمات الدولية بين الروس والغرب، ويمكن إدراكها من المؤشّرات التالية:
- عودة سباق التسلّح وذلك من خلال الإعلان الأميركي عن العودة إلى تطوير سلاح نووي منخفض الفعالية لاستعماله في أية حرب مقبلة يتم فيها تهديد الحلفاء، والردّ الروسي باستعراض أسلحة "غير مسبوقة"، وتهديد مقابل.
- غرق أوروبا بمشاكل سياسة داخلية ناتجة من نهوض القومية العنصرية والدعوة للعودة إلى مفاهيم الدولة القومية كبديل عن النموذج الاندماجي الأوروبي، والذي سيزداد بعد تفاقم الأزمات نتيجة لزيادة اللاجئين، بالإضافة إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي ستنتج من تحويل أجزاء من الموازنات الأوروبية لزيادة الإنفاق العسكري، وزيادة حصة الأوروبيين في الإنفاق في حلف الناتو الذي يطلبه الأميركيون... وهذا سيجعلهم يحاولون دفع الأزمات إلى الخارج بتسليط الضوء على "عدو خارجي" للتغطية على المشاكل الداخلية.
- المشاكل الداخلية في الولايات المتحدة الأميركية، وشخصية ترامب المثيرة للجدل وسرعة التغيير في هيكل الإدارة الأميركية المُتأرجِحة بسبب الإقالات والاستقالات، وسيطرة جنرالات البنتاغون على السياسة الخارجية ما يدفع على عسكرتها، وهو ما يحتّم المزيد من الاقتتال بالواسطة وعبر وكلاء بين الروس والأميركيين في أرجاء العالم وفي سوريا بالتحديد.